التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

وبعد هذا الدعاء المخلص ، وجه الله - تعالى - نبيه موسى وأخاه هارون - عليهما السلام - إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال - تعالى - { وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً . . }

وقوله { تبوءا } من التبؤ وهو اتخاذ المباءة أى المنزل ، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن .

يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه ، وهيأته له .

والمعنى : وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون في طغيانه وفى إنزال العذاب بالمؤمنين - أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم في مصر ، ينزلون بها ، ويستقرون فيها ، ويعتزلون فرعون وجنده ، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا .

وقوله { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أى : واجعلوا هذه البيوت التي حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم ، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم في الأماكن المخصصة لذلك .

قال القرطبي : " المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا ، وذلك حين أخافوا فرعون ، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت ، والإِقدام على الصلاة ، والدعاء ، إلى أن ينجز الله وعده ، وهو المراد بقوله { قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا } وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن ، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم . . . " .

وقوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أى : داوموا عليها ، وأدوها في أوقاتها بخشوع وإخلاص ، فإن في أدائها بهذه الصورة . وسيلة إلى تفريج الكروب ، وفى الحديث الشريف : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حز به أمر صلى " .

وقوله { وَبَشِّرِ المؤمنين } تذييل قصد به بعث الأمل في نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به .

أى : وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح في الدنيا ، وبالثواب الجزيل في الآخرة .

قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : كيف نوع الخطاب فثنى أولا ، ثم جمع ، ثم وحد آخرا ؟

قلت : " خوطب موسى وهارون - عليه السلام - أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور . ثم خص موسى - عليه السلام - بالبشارة التي هي الغرض تعظيما لها ، وللمبشر بها " .

ولأن بشارة الأمة - كما يقول الآلوسى - وظيفة صاحب الشريعة ، وهى من الأعظم أَسَرُّ وأوقع في النفس .

هذا ، ومن التوجيهات الحكيمة التي نأخذها من هذه الآية الكريمة ، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح ، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان ، إذا لم تنفع معهم النصيحة ، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة ، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة ، وعلى الأخوة الخالصة ، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه ، وكيفية خلاصهم منهم{[14367]} وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون ، عليهما السلام { أَنْ تَبَوَّءَا } أي : يتخذا لقومهما بمصر بيوتا .

واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً }{[14368]} فقال الثوري وغيره ، عن خُصَيْف ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : أمرُوا أن يتخذوها مساجد .

وقال الثوري أيضا ، عن ابن منصور ، عن إبراهيم : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم .

وكذا قال مجاهد ، وأبو مالك ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبوه زيد بن أسلم : وكأن هذا - والله أعلم - لما اشتد بهم البلاء من قبَل فرعون وقومه ، وضيقوا عليهم ، أمروا بكثرة الصلاة ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [ البقرة : 156 ] . وفي الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . أخرجه أبو داود{[14369]} . ولهذا{[14370]} قال تعالى في هذه الآية : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بالثواب والنصر القريب .

وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى ، عليه السلام : لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة ، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم ، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة . وقال مجاهد : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : لما خاف بنو إسرائيل من

فرعون أن يقتلوا{[14371]} في الكنائس الجامعة ، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة ، يصلون فيها سرًّا . وكذا قال قتادة ، والضحاك .

وقال سعيد بن جبير : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : يقابل بعضها بعضا .


[14367]:- في أ : "منه".
[14368]:- في ت : "وجعلوا".
[14369]:- سنن أبي داود برقم (1319) من حديث حذيفة ، رضي الله عنه.
[14370]:- في ت ، أ : "وكذا".
[14371]:- في ت : "أن يصلوا".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

{ وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا } أي اتخذا مباءة . { لقومكُما بمصر بيوتا } تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة . { واجعلوا } أنتما وقومكما . { بيوتكم } تلك البيوت . { قبلة } مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة ، وكان موسى صلى الله عليه وسلم يصلي إليها . { وأقيموا الصلاة } فيها ، أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم . { وبشر المؤمنين } بالنصرة في الدنيا والجنة في العقبى ، وإنما ثنى الضمير أولا لأن التبوأ للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور ، ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما ينبغي أن يفعله كل أحد ، ثم وحد لأن البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوۡمِكُمَا بِمِصۡرَ بُيُوتٗا وَٱجۡعَلُواْ بُيُوتَكُمۡ قِبۡلَةٗ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (87)

روي أن فرعون أخاف بني إسرائيل وهدم لهم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة ونحو هذا ، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر ، قال مجاهد : { مصر } في هذه الآية الإسكندرية ، ومصر ما بين البحر إلى أسوان ، والإسكندرية من أرض مصر ، و { تبوّآ } معناه كما قلنا تخيراً واتخذا ، وهي لفظة مستعملة في الأماكن وما يشبه بها ، ومن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

لها أمرها حتى إذا ما تبوأت*** لأنحامها مرعى تبوأ مضجعا{[6203]}

وهذا البيت للراعي وبه سمى المراعي ومنه قول امرىء القيس : [ الكامل ]

يتبوأون مقاعداً لقتالكم*** كليوثِ غابٍ ليلهن زئير{[6204]}

وقرأ الناس «تبوّآ » بهمزة على تقدير تبوعا{[6205]} ، وقرأ حفص في رواية هبيرة «تبويا » وهذا تسهيل ليس بقياسي ، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف ، قوله { قبلة } ومعناه مساجد ، قاله ابن عباس والربيع والضحاك والنخعي وغيرهم ، قالوا : خافوا فأمروا بالصلاة في بيوتهم ، وقيل يقابل بعضها بعضاً ، قاله سعيد بن جبير والأول أصوب ، وقيل معناه متوجهة إلى القبلة ، قاله ابن عباس ، ومن هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خير بيوتكم ما استقبل به القبلة » ، وقوله { وأقيموا الصلاة } خطاب لبني إسرائيل هذا قبل نزول التوراة لأنها لم تنزل إلا بعد إجازة البحر{[6206]} ، وقوله { وبشر المؤمنين } أمر لموسى عليه السلام ، وقال مكي والطبري هو أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا غير متمكن


[6203]:- البيت للراعي كما قال ابن عطية، واسمه عبيد بن الحصين، وهو من فحول الشعراء، عدّه ابن سلام الجمحي في كتابه "الطبقات" من فحول الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين، وكان يفضل الفرزدق على جرير، وله في ذلك قصة مشهورة، وقد روي البيت بلفظ: "لأمحالها" و"لأخفافها" جمع خفّ بدلا من "لأقحافها"، والأقحاف: جمع قِحف، والقحف واحد من أقحاف ثمانية تكون الجمجمة، والمعنى واضح على روايتي الأخفاف والأقحاف.
[6204]:- في (اللسان): "تبوأ فلان منزلا: اتخذه، وتبوأت منزلا: نزلته، وعليه قوله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان} فمعنى يتبوءون في البيت: ينزلونها ويتخذونها مقاعد للقتال. والزئير: صوت الأسد يكون من صدره.
[6205]:- يوجد بياض بالأصل في أكثر النسخ، وفي نسخة واحدة: "على تقدير: تبوعا".
[6206]:- يقال: جاز الموضع وبه: سار فيه وقطعه، ويقال: أجاز الموضع: جازه. (المعجم الوسيط).