وقوله - تعالى - : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً } معطوف على { الحكم } .
أى : وأعطيناه الحكم صبياً ، وأعطيناه حنانا . . .
قال القرطبى ما ملخصه : " الحنان ، الشفقة والرحمة والمحبة ، وهو فعل من أفعال النفس . . .
وأصله : من حنان الناقة على ولدها . . . قال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا . . . حنانيك بعض الشر أهون من بعض
والمعنى : منحنا { يايحيى } الحكم صبيا ، ومنحناه من عندنا وحدنا رحمة عظيمة عليه ، ورحمة فى قلبه جعلته يعطف على غيره ، وأعطيناه كذلك زكاة أى : طهارة فى النفس ، أبعدته عن ارتكاب ما نهى الله عنه ، وجعلته سباقاً لفعل الخير { وَكَانَ تَقِيّاً } أى مطيعاً لنا فى كل ما نأمره به ، أو ننهاه عنه .
وقوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } يقول : ورحمة من عندنا ، وكذا قال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك وزاد : لا يقدر عليها غيرنا . وزاد قتادة : رُحِم بها زكريا .
وقال مجاهد : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } وتعطفًا من ربه عليه .
وقال عكرمة : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } [ قال : محبة عليه . وقال ابن زيد : أما الحنان فالمحبة . وقال عطاء بن أبي رباح : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ]{[18702]} ، قال : تعظيمًا من لدنا{[18703]} .
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال : لا والله ما أدري{[18704]} ما حنانًا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور : سألت سعيد بن جبير عن قوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ، فقال : سألت عنها عباس ، فلم يحر{[18705]} فيها شيئًا .
والظاهر من هذا السياق أن : { وَحَنَانًا [ مِنْ لَدُنَّا ] }{[18706]} معطوف على قوله : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : وآتيناه الحكم وحنانا ، { وَزَكَاةً } أي : وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب : حنّت الناقة على ولدها ، وحنت المرأة على زوجها . ومنه سميت المرأة " حَنَّة " من الحَنَّة ، وحن الرجل إلى وطنه ، ومنه التعطف والرحمة ، كما قال الشاعر{[18707]}
تَحنَّنْ{[18708]} عَلَي هَدَاكَ المليكُ *** فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا
وفي المسند للإمام أحمد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أن{[18709]} رسول الله صلى الله عليه قال : " يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان " {[18710]}
وقد يُثنَّي{[18711]} ومنهم من يجعل ما ورد من{[18712]} ذلك لغة بذاتها ، كما قال طرفة :
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا *** حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ بَعْض{[18713]}
وقوله : { وَزَكَاةً } معطوف على { وَحَنَانًا } فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب .
وقال قتادة : الزكاة{[18714]} العمل الصالح .
وقال الضحاك وابن جريج : العمل الصالح الزكي .
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَزَكَاةً } [ قال : بركة ]{[18715]} { وَكَانَ تَقِيًّا } طهر ، فلم يعمل بذنب .
وقوله { وحناناً } عطف على قوله { الحكم } { وزكاة } عطف عليه ، أعمل في جميع ذلك { آتيناه } ، ويجوز أن يكون قوله { وحناناً } عطفاً على قوله { صبياً } ، أي وبحال حنان منا وتزكية له والحنان الرحمة والشفقة والمحبة قاله جمهور المفسرين ، وهو تفسير اللغة . وهو فعل من أفعال النفس ويقال حنانك وحنانيك ، فقيل هما لغتان بمعنى واحد ، وقيل حنانيك تثنية الحنان ، وقال عطاء بن أبي رباح { حناناً من لدنا } بمعنى تعظيماً من لدنا . والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله تعالى ، ومن قول زيد بن عمرو بن نفيل في خبر بلال بن رباح «والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً » . وقد روي عن ابن عباس أنه قال «والله ما أدري ما الحنان » . و «الزكاة » التطهير والتنمية في وجود الخير والبر . و «التقي » من تقوى الله عز وجل ، وروي في تفسير هذه الآية من طريق عبدالله بن عمرو عن النبي عليه السلام أنه قال «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء » {[7923]} وقال قتادة : إن يحيى عليه السلام لم يعص الله قط بصغيرة ولا بكبيرة ولا همَّ بأمراة ، وقال مجاهد : كان طعام يحيى العشب وكان للدمع في خده مجار ثابتة ومن الشواهد في الحنان قوله امرئ القيس : [ الوافر ]
وتمنحها بنو شمجى بن جرم . . . معيزهمُ حنانك ذا الحنان{[7924]}
أبا منذر أفنيت فاستبقِ بعضنا . . . حنانيك بعض الشر أهون من بعض{[7925]}
وقال الآخر : [ منذر بن إبراهيم الكلبي ] [ الطويل ]
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا . . . أذو نسب أم أنت بالحي عارف{[7926]}