التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ} (37)

ثم بين - سبحانه - موقف أهل الكتاب من عيسى - عليه السلام - فقال : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .

والأحزاب جمع حزب والمراد بهم فرق اليهود والنصارى الذين اختلفوا فى شأنه - عليه السلام - فمنهم من اتهم أمه بما هى بريئة منه ، وهم اليهود كما فى قوله : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } ومنهم من قال هو ابن الله ، أو هو الله ، أو إله مع الله ، أو هو ثالث ثلاثة . . . إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة التى حكاها القرآن عن الضالين وهم النصارى .

ولفظ { وْيْلٌ } مصدر لا فعل له من لفظه ، وهو كلمة عذاب ووعيد .

و { مَّشْهَدِ } يصح أن يكون مصدراً ميما بمعنى الشهود والحضور .

والمعنى : هكذا قال عيسى - عليه السلام - لقومه : { اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ } ولكن الفرق الضالة من اليهود والنصارى اختلفوا فيما بينهم فى شأنه اختلافاً كبيراً ، وضلوا ضلالا بعيدا ، حيث وصفوه بما هو برىء منه ، فويل لهؤلاء الكافرين من شهود ذلك اليوم العظيم وهو يوم القيامة ، حيث سيلقون عذاباً شديداً من الله بسبب ما نطقوا به من زور وبهتان .

وعبر عنهم بالموصول فى قوله { لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } إيذاناً بكفرهم جميعاً ، وإشعاراً بعلة الحكم .

قال أبو حيان : " ومعنى : { مِن بَيْنِهِمْ } أن الاختلاف لم يخرج عنهم ، بل كانوا هم المختلفين دون غيرهم " .

وجاء التعبير فى قوله { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } بالتنكير ، للتهويل من شأن هذا المشهد ، ومن شأن هذا اليوم وهو يوم القيامة ، الذى يشهده الثقلان وغيرهما من مخلوقات الله - تعالى - .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ} (37)

وقوله : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي : اختلفت{[18821]} أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله ، وأنه عبده{[18822]} ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فصَمَّمَت طائفة - وهم جمهور اليهود ، عليهم لعائن الله - على أنه ولد زنْيَة ، وقالوا : كلامه هذا سحر . وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم{[18823]} الله . وقال آخرون : هو ابن الله ، وقال آخرون : ثالث ثلاثة . وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله . وهذا هو قول الحق ، الذي أرشد الله إليه{[18824]} المؤمنين . وقد روي [ نحو هذا ]{[18825]} عن عمرو بن ميمون ، وابن جريج ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف .

/خ37

وقد روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، وعن عروة بن الزبير ، وعن بعض أهل العلم ، قريبًا من ذلك . وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم : أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة الأساقفة{[18826]} منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفًا ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، اختلافًا متباينًا ، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا{[18827]} وسبعون تقول{[18828]} فيه قولا آخر ، وخمسون تقول{[18829]} فيه شيئًا آخر ، ومائة وستون تقول شيئًا ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم ، اتفقوا على قول وصَمَّموا عليه{[18830]} ومال{[18831]} إليهم الملك ، وكان فيلسوفًا ، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم ، فوضعوا له الأمانة الكبيرة ، بل هي الخيانة العظيمة ، ووضعوا له كتب القوانين ، وشرَّعوا له أشياء{[18832]} وابتدعوا بدعًا كثيرة ، وحَرَّفوا دين المسيح ، وغيروه ، فابتنى حينئذ لهم{[18833]} الكنائس الكبار في مملكته كلها : بلاد الشام ، والجزيرة ، والروم ، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة{[18834]} ألف كنيسة ، وبنت أمه هيلانة قُمَامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب{[18835]} الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح ، وقد كذبوا ، بل رفعه الله إلى السماء .

وقوله : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله ، وافترى ، وزعم أن له ولدا . ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلمًا وثقة بقدرته عليهم ؛ فإنه الذي لا يعجل على من عصاه ، كما جاء في الصحيحين : " إن الله ليملي{[18836]} للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] وفي الصحيحين أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أحد أصبر على أذى سمعه{[18837]} من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم " {[18838]} . وقد قال الله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] وقال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ولهذا قال هاهنا : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : يوم القيامة ، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته ، عن عبادة بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله [ ورسوله ]{[18839]} وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " {[18840]}


[18821]:في أ: "اختلف".
[18822]:في ت: "عبد الله".
[18823]:في ف، أ: "يكلم".
[18824]:في ت: "فيه".
[18825]:زيادة من أ.
[18826]:في ت: "الأساومة".
[18827]:في أ: "شيئا".
[18828]:في ف، أ: "يقولون".
[18829]:في ف، أ: "يقولون".
[18830]:في ت: "عليهم".
[18831]:في ف، أ: "فمال".
[18832]:في أ: "شيئا".
[18833]:في ت، ف، أ: "فابتنى لهم حينئذ".
[18834]:في أ: "اثني عشر"، وهو خطأ والصواب ما بالأصل.
[18835]:في ت: "المصلون".
[18836]:في ت: "إنه ليملي".
[18837]:في ت: "يسمعه".
[18838]:صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804).
[18839]:زيادة من ف، أ، والبخاري ومسلم.
[18840]:صحيح البخاري برقم (3435) وصحيح مسلم برقم (29).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ} (37)

{ فاختلف الأحزاب من بينهم } اليهود والنصارى . أو فرق النصارى نسطورية قالوا إنه ابن الله ويعقوبية قالوا هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وملكانية قالوا هو عبد الله ونبيه . { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } من شهود يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه ، وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكانه فيه ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وآرابهم وأرجلهم بالكفر والفسق ، أو من وقت الشهادة أو من مكانها . وقيل هو ما شهدوا به في عيسى وأمه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَٱخۡتَلَفَ ٱلۡأَحۡزَابُ مِنۢ بَيۡنِهِمۡۖ فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشۡهَدِ يَوۡمٍ عَظِيمٍ} (37)

هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام بأن بني اسرائيل اختلفوا أحزاباً أي فرقاً ، وقوله { من بينهم } معناه أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا المختلفين . وروي في هذا عن قتادة أن بني اسرائيل جمعوا من أنفسهم اربعة أحبار غاية في المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم بأن يبينوا أمر عيسى فقال احدهم : عيسى هو الله نزل إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات ثم صعد ، فقال له الثلاثة كذبت واتبعه اليعقوبية ، ثم قيل للثلاثة فقال أحدهم : عيسى ابن الله فقال له الاثنان كذبت واتبعه النسطورية ، ثم قيل للاثنين فقال أحدهم عيسى أحد ثلاثة الله إله ، ومريم إله ، وعيسى إله ، فقال له الرابع كذبت واتبعه الإسرائيلية ، فقيل للرابع فقال عيسى عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم فاتبع كل واحد من الأربعة فريقاً من بني اسرائيل ثم اقتتلوا فغلب المؤمنون وقتلوا وظهرت اليعقوبية على الجميع . وروي أن في ذلك نزلت { إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم }{[7963]} [ آل عمران : 21 ] . و «الويل » الحزن والثبور ، وقيل ويل واد في جهنم ، و { مشهد يوم عظيم } هو مشهد يوم القيامة ويحتمل أن يراد ب { مشهد يوم عظيم } يوم قتل المؤمنون حين اختلف الأحزاب ، وقد أشار إلى هذا المعنى قتادة .


[7963]:الآية (21) من سورة (آل عمران).