وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن نعمة تحويل القبلة أتبعه بالحديث عن نعمة جليلة أخرى وهي نعمة ارسال الرسول فيهم لهدايتهم فقال - تعالى -
{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا . . . }
قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ } . . إلخ متصل بما قبله ، والكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف وما مصدرية ، والتقدير : لقد حولت القبلة إلى شطر المسجد الحرام لأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام نعمتي عليكم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فيكم ، إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل إذ قالا { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ . . . } وقيل إن قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا } . . إلخ متصل بما بعده ، فتكون الكاف للمقابلة ، أي : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين القويم ، والخلق المستقيم ومنحتكم هذه النعمة فضلا مني وكرماً ، فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي . وقوله : { فِيكُمْ } متعلق " بأرسلنا " وقدم على المفعول تعجيلا بإدخال السرور : وقوله : { مِّنْكُمْ } في موضع نصب ، لأنه صفة لقوله : { رَسُولاً } والمخاطبون بهذه الآية الكريمة هم العرب .
وفي إرساله الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وهو منهم نعمة تستوجب المزيد من الشكر ، لأن إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة وسيرته العطرة ، ومن شأن هذه المعرفة أن تحملهم على المسارعة إلى تصديقه والإِيمان به ، ولأن في إرساله فيهم وهو منهم شرف عظيم لهم ، ومجد لا يعد له مجد ، حيث جعل - سبحانه - خاتم رسله من هذه الأمة ، ولأن المشهور من حالهم الأنفة الشديدة من الانقياط ، فكون الرسول منهم ادعى إلى إيمانهم به وقبولهم لدعوته . وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } صفة ثانية للرسول صلى الله عليه وسلم .
والتلاوة : ذكرالكلمة بعد الكلمة على نظام متسق ، وأصله من الإِتباع ومنه تلاه ، أي : تبعه . والمراد من الآيات : آيات القرآن الكريم ، وتلاوتها قراءتها ، فإن البصير بأسليب البيان العربي يدرك من مجرد تلاوة آيات القرآن كيف ارتفع إلى الذروة التي كان بها معجزة ساطعة .
وفي هذه الجملة - كما قال الآلوسي - " إشارة إلى طريق إثبات نبوته - عليه الصلاة والسلام - لأن تلاوة الأمي للآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإِخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته "
وعبر بقوله : { يَتْلُواْ } لأن نزول القرآن مستمر ، وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم له متوالية ، وفي كل قراءة يحصل علم المعجزات للسامعين .
ويجوز أن يراد بالآيات : دلائل التوحيد والنبوة والبعث ، وبتلاوتها التذكير بها حتى يزداد المؤمنون إيماناً بصدقها .
وقوله : { وَيُزَكِّيكُمْ } صفة ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ويطهركم من الشرك ، ومن الأخلاق الذميمة . وإذا أشرقت النفوس بنور الحق ، وتحلت بالأخلاق الحميدة ، قوبت على تلقى ما يرد عليها من الحقائق السامية .
وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة رابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالكتاب : القرآن ، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه ، فهو غير التلاوة ، فلا تكرار بين قوله { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وبين قوله { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب } .
والحكمة : ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة .
قال بعضهم : وقدمت جملة { وَيُزَكِّيكُمْ } هنا على جملة { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة } عكس ما جاء في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ } لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين ، فقدم ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها ، وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها . أما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن " .
وقوله - تعالى - : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة خامسة له صلى الله عليه وسلم .
أي : " ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي . ومما لم يكونوا يعملونه وعلمهم إياه صلى الله عليه وسلم وجوه واستنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها ، وأخبار الأمم الماضية ، وقصص الأنبياء ، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم . وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة .
ولقد كان العرب قبل الإِسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد . . . فلما أكرمهم الله - تعالى - برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم الآيات ، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، خرج منهم رجال صاروا أمثالا عالية في العقيدة السليمة ، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة ، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات .
قال الآلوسي : وكان الظاهر أن يقول : " ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون " بحذف الفعل " يعلمكم " من الجملة الآخيرة ، ليكون الكلام من عطف المفرد على المفرد ، إلا أنه - تعالى - كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا ، فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة ، ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون " .
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم ، أي : يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويعلمهم الكتاب - وهو القرآن - والحكمة - وهي السنة - ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون . فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى ، فانتقلوا ببركة رسالته ، ويُمن سفارته ، إلى حال الأولياء ، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا ، وأبرهم قلوبًا ، وأقلهم تكلفًا ، وأصدقهم لهجة . وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية [ آل عمران : 164 ] . وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28 ] .
{ كما أرسلنا فيكم رسولا منكم } متصل بما قبله ، أي ولأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة ، أو في الآخرة كما أتممتها بإرسال رسول منكم ، أو بما بعده كما ذكرتكم بالإرسال فاذكروني . { يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم } يحملكم على ما تصيرون به أزكياء ، قدمه باعتبار القصد وأخره في دعوة إبراهيم عليه السلام باعتبار الفعل { ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } بالفكر والنظر ، إذ لا طريق إلى معرفته سوى الوحي ، وكرر الفعل ليدل على أنه جنس آخر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.