وقوله - تعالى - : { بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } إضراب من جهته - تعالى - ، وانتقال من حكاية قولهم السابق { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . . } إلى حكاية أقوال أخرى باطلة قالوها فى شأنه - صلى الله عليه وسلم - وفى شأن ما جاء به .
أى : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بما قالوه قبل ذلك فى شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنه بشر وما وجاء به سحر ، بل أضافوا إلى ذلك أن القرآن أضغاث أحلام . أى : أخلاط كأخلاط الأحلام ، وأنه أباطيل لا حقيقة لها .
والأضغاث : جمع ضغث . واصله ما جمع من أنواع شتى من النبات ثم حزم فى حزمة واحدة .
والأحلام : جمع حلم - بضم الحاء وسكون اللام - وهو ما يراه النائم مما ليس بحسن .
وقد استعير هذا التركيب لما يراه النائم من وساوس وأحلام خلال نومه { بَلِ افتراه } أى : اختلق هذا القرآن من عند نفسه .
{ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } أى : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شاعر - فى زعمهم - وما أتى به هو نوع من الشعر التخييلى الذى لا حقيقة له .
ثم أضافوا إلى هذا التخبط واضطراب قولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } .
ومرادهم بالآية هنا : آية كونية ، والجملة جواب لشرط محذوف يفصح عنه السياق ، والتقدير : إن لم يكن كما قلنا فى شأنه من أنه شارع بل كان رسولا حقا فليأتنا بخارق يدل على صدقه كناقة صالح ، وعصا موسى ، وإحياء عيسى للأموات .
. . . فإن المرسلين السابقين فعلوا ذلك .
وكأنهم - لانطماس بصائرهم وشدة جهالاتهم - لا يعتبرون القرآن الذى هو آية الآيات - لا يعتبرونه آية ومعجزة تدل على صدقه - صلى الله عليه وسلم - .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد صورت تخبط هؤلاء المشركين تصويراً حكيما ، شأنهم فى ذلك شأن الحائر المضطرب الذى لا يستطيع الثبات على قرار ، بل هو لتمحله وتعلله ينتقل من دعوى باطلة إلى أخرى أشد منها بطلانا .
وقد نفى القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل هذه الدعاوى الباطلة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } وقوله - سبحانه - { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين }
وقوله : { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه } هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن ، وحيرتهم فيه وضلالهم عنه ، فتارة يجعلونه سحراً ، وتارة يجعلونه شعراً ، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام ، وتارة يجعلونه مفترى ، كما قال { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً } وقوله { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } الآية ، ولهذا قال تعالى : { ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بل قالوا أضغاث أحلام} يعني: جماعات أحلام يعنون القرآن. قالوا: هي أحلام كاذبة مختلطة يراها محمد صلى الله عليه وسلم في المنام فيخبرنا بها، ثم قال: {بل افتراه} يعنون بل يخلق محمد صلى الله عليه وسلم القرآن من تلقاء نفسه، ثم قال: {بل هو} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم {شاعر}، فإن كان صادقا {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} من الأنبياء، عليهم السلام، بالآيات إلى قومهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما صدّقوا بحكمة هذا القرآن ولا أنه من عند الله، ولا أقرّوا بأنه وحي أوْحَى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بل قال بعضهم: هو أهاويل رؤيا رآها في النوم، وقال بعضهم: هو فرْية واختلاق افتراه واختلقه من قِبَل نفسه، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم به شعر. "فَلْيَأْتِنا "يقول: قالوا فليجئنا محمد -إن كان صادقا في قوله إن الله بعثه رسولاً إلينا وإن هذا الذي يتلوه علينا وحي من الله أوحاه إلينا – "بآية" يقول: بحجة ودلالة على حقيقة ما يقول ويدّعي.
"كمَا أُرْسِلَ الأوّلُونَ" يقول: كما جاءت به الرسل الأوّلون من قبْله من إحياء الموَتى وإبراء الأكمه والأبرص وكناقة صالح، وما أشبه ذلك من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله ولا يأتي بها إلا الأنبياء والرسل...
وقال تعالى ذكره: "بَلْ قَالُوا" ولا جحد في الكلام ظاهر فيحقق ب «بَلْ»، لأن الخبر عن أهل الجحود والتكذيب، فاجتُزِي بمعرفة السامعين بما دلّ عليه قوله «بل» من ذكر الخبر عنهم على ما قد بينا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم أخبر عن سفههم وقلة نظرهم في قولهم وكلامهم وعدم حفظهم عن التناقض، فقال: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر}. في ما نسبوه إلى الشعر والسحر والافتراء وأنه أضغاث أحلام: تناقض في قولهم، لأن السحر هو غير الافتراء، والسحر غير أضغاث أحلام، كل حرف من هذه الحروف التي نسبوها إليه يناقض الآخر ويبطله. فدل أنهم إنما قالوا ذلك، ونسبوه إلى ما نسبوا متعنتين مكابرين لا عن معرفة علم قالوا ذلك.
{فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} قد علموا علم حقيقة أنه قد أتاهم بآيات وحجج ما لو تأملوا فيها ولم يكابروا، لدلهم على صدقه ورسالته، وقد عرفوا أنه صادق، لكنهم سألوا في قولهم: {فليأتنا بآية} الآية التي تنزل عند المكابرة والعناد، وهي الآية التي نزلت في الأمم الخالية عند مكابرتهم الآيات والحجج، وهي إهلاكهم واستئصالهم؛ إذ من سنته وحكمه في الأولين الإهلاك والاستئصال عند مكابرتهم الآيات والحجج. وسنته وحكمه في هذه الأمة ختم النبوة بهم وإبقاء شريعة محمد، صلوات الله عليه، إلى الساعة. وسنته في الأمم الماضية نسخ شرائعهم واستبدال أحكامهم. فإذا كان ما ذكرنا جعل وقت إهلاكهم الساعة، وهو ما قال: {بل الساعة موعدهم} الآية [القمر: 46].
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله:"بل قالوا أضغاث احلام بل افتراه" فالمعني في (بل) الإضراب بها عما حكى أنهم قالوه أولا، والإخبار عما قالوه ثانيا، لأنهم أولا قالوا: هذا الذي أتانا به من القرآن (أضغاث احلام) أي تخاليط رؤيا، رآها في المنام...
ثم قالوا: لا (بل افتراه) أي تخرصه وافتعله. ثم قالوا: (بل هو شاعر). وإنما قالوا: هو شاعر، قول متحير، قد بهره ما سمع، فمرة يقول ساحر، ومرة يقول شاعر، ولا يجزم على أمر واحد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج، والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد. ويجوز أن يكون تنزيلاً من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد: وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذلك الرابع من الثالث...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الأضغاث» الأخلاط، وأصل الضغث القبضة المختلطة من العشب والحشيش، فشبَّه تخليط الحلم بذلك، وهو ما لا يتفسر ولا يتحصل، ثم حكى من قال قول شاعر وهي مقالة فرقة عامية منهم لأن نبلاء العرب لم يخْفَ عليهم بالبديهة أن مباني القرآن ليست مباني شعر. ثم حكى اقتراحهم وتمنيهم آية تضطرهم وتكون في غاية الوضوح كناقة صالح وغيرها، وقولهم {كما أرسل الأولون} دال على معرفتهم بإتيان الرسل الأمم المتقدمة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا يصفون القرآن بجميع هذه الأوصاف جملة، يقولون لكل شخص ما رأوه أنسب له منها، نبه الله سبحانه كل من له لب على بطلانها كلها بتناقضها بحرف الإضراب إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها، على قلة عقله وعدم حيائه، أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله، وأنه مما يضرب عنه لكونه غلطاً، ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل، ستراً لعناده وتدليساً لفجوره، ولو فعل ذلك لكانت جديرة بانكشاف بطلانها بمجرد الانتقال فكيف عند اجتماعها.
ولما كانت نسبته إلى الشعر أضعفها شأناً، وأوضحها بطلاناً،لم يحتج إلى إضراب عنه، وعبروا في الأضغاث بوصف القرآن تأكيداً لعيبه، وفي الافتراء والشعر بوصفه صلى الله عليه وسلم لذلك. ولما أنتج لهم ذلك -على زعمهم- القدح في أعظم المعجزات، سببوا عن هذا القدح طلب آية فقالوا: {فليأتنا} أي دليلاً على رسالته {بآية} أي لأنا قد بينا بطعننا أن القرآن ليس بآية؛ ثم خيلوا النَّصَفة بقولهم: {كما} أي مثل ما، وبنوا الفعل للمفعول إشارة إلى أنه متى صحت الرسالة كان ذلك بزعمهم من غير تخلف لشيء أصلاً فقالوا: {أرسل الأولون} أي بالآيات مثل تسبيح الجبال، وتسخير الريح، وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وهذا تناقض آخر في اعترافهم برسالة الأولين مع معرفتهم أنهم بشر، وإنكارهم رسالته صلى الله عليه وسلم لكونه بشراً، ولم يستحيوا بعد التناقض من المكابرة فيما أتاهم به من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، ونبع الماء، والقرآن المعجز، مع كونه أمياً -إلى غير ذلك...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وفي هذا الاضطراب منهم، والتلوّن والتردّد أعظم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به، لا يدرون ما هو ولا يعرفون كنهه؟ أو كانوا قد علموا أنه حق، وأنه من عند الله، ولكن أرادوا أن يدفعوه بالصدر، ويرموه بكل حجر ومدر، وهذا شأن من غلبته الحجة وقهره البرهان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد حاروا كيف يصفون هذا القرآن وكيف يتقونه. فقالوا: إنه سحر. وقالوا: إنه أحلام مختلطة يراها محمد ويرويها. وقالوا: إنه شعر. وقالوا: إنه افتراه وزعم إنه وحي من عند الله:
(بل قالوا: أضغاث أحلام، بل افتراه، بل هو شاعر)..
ولم يثبتوا على صفة له، ولا على رأي يرونه فيه، لأنهم إنما يتمحلون ويحاولون أن يعللوا أثره المزلزل في نفوسهم بشتى التعلات فلا يستطيعون؛ فينتقلون من ادعاء إلى ادعاء، ومن تعليل إلى تعليل، حائرين غير مستقرين.. ثم يخلصون من الحرج بأن يطلبوا بدل القرآن خارقة من الخوارق التي جاء بها الأولون:
(فليأتنا بآية كما أرسل الأولون)..
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} في ما تعبر عنه الكلمة من الرؤى التي تتمثل للإنسان في صور مضطربة، وأحداث غير متناسقة، مما يراه في المنام، من دون أن يكون لها أساس في الواقع، أو موقع من الفكر. ولكن كيف تكون كل هذه الآيات المليئة بالفكر والروح والحركة والحياة أحلاماً مبهمة متناثرة؟ وكيف يمكن أن يعطي الضباب الوضوح في الرؤية، أو يمنح السحاب الأفق مزيداً من الإشراق؟ ولهذا أعرضوا عن ذلك لأنه لا يرتكز إلى أساس معقول، فلا يقبله منهم أحد من ذوي العقول، فانتقلوا إلى كلمة أخرى أقرب إلى التصديق، {بَلِ افْتَرَاهُ} فهو يصنع الفكرة من داخل ذاته ثم ينسبها إلى الله، ليصدقها الناس من خلال القداسة؛ وبذلك يملك كل المعطيات التي تؤكدها. ولكنهم يلاحظون هذا الإقبال العجيب على الإيمان بهذه الآيات مما لا يحصل في كل مواقع الافتراء التي لا تترك أثراً عميقاً، ولهذا اختاروا كلمةً تعطي المسألة قوّتها في نطاق الذوق الفني، {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يملك الفن الرفيع الذي ينحت الكلمة الرائعة، ويبدع الفكرة الرفيعة، ويثير الإحساس، ويلهب الشعور، ويقترب في إيحاءاته من السموّ في اللمحة واللفتة والأسلوب. وبذلك كان القرآن يمثل الشعر في بلاغته...