روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{بَلۡ قَالُوٓاْ أَضۡغَٰثُ أَحۡلَٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرٞ فَلۡيَأۡتِنَا بِـَٔايَةٖ كَمَآ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ} (5)

{ بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب باطل أي لم يقتصروا على القول في حقه صلى الله عليه وسلم هل هذا إلا بشر مثلكم وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا هو أي القرآن تخاليط الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا : { بَلِ } من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل ثم أضربوا فقالوا : { افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ، وهذا الاضطراب شأن المبطل المحجوج فإنه لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد ؛ قبل الأولى كما ترى من كلامه عز وجل وهي انتقالية والمنتقل منه ما تقدم باعتبار خصوصه والأخيرتان من كلامهم المحكى وهما ابطاليتان لترددهم وتحيرهم في تزويرهم وجملة المقول داخلة في النجوى . ويجوز أن تكون الأولى انتقالية والمنتقل منه ما تقدم بقطع النظر عن خصوصه والجملة غير داخلة في النجوى ، وكلا الوجهين وجيه وليس فيهما إلا اختلاف معنى بل ، وكون الأولى من الحكاية والأخيرتين من المحكى ولا مانع منه .

وجوز أن تكون الأولى من كلامهم وهي إبطالية أيضاً متعلقة بقولهم هو سحر المدلول عليه ب { أفتأتون السحر } [ الأنبياء : 3 ] . ورد بأنه إنما يصح لو كان النظم الكريم قالوا بل الخ ليفيد حكاية اضرابهم ، وكونه من القلب وأصله قالوا بل لا يخفى ما فيه ، وقد أجيب أيضاً بأنه اضراب في قولهم المحكى بالقول المقدر قبل قوله تعالى : { هَلْ هذا } [ لأنبياء : 3 ] الخ أو الذي تضمنه النجوى وأعيد القول للفاصل أو لكونه غير مصرح به ولا يخفى ما فيه أيضاً ، وجوز أن تكون الثلاثة من كلامه عز وجل على أن ذلك تنزيل لأقوالهم في درج الفساد وأن قولهم الثاني أفسد من الأول والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث ، ويطلق على نحو هذا الاضراب الترقي لكن لم يقل هنا ترقيا إشارة إلى أن الرتقي في القبح تنزيل في الحقيقة ، ووجه ذلك كما قال في الكشف أن قولهم إنه سحر أقرب من الثاني فقد يقال : إن من البيان لسحراً لأن تخاليط الكلام التي لا تنضبط لأشبه لها بوجه بالنظم الأنيق الذي أبكم كل منطيق ، ثم ادعاء أنها مع كونها تخاليط متفريات أبعد وأبعد لأن النظم بمادته وصورته من أتم القواطع دلالة على الصدق كيف وقد انضم إليه أن القائل عليه الصلاة والسلام علم عندهم في الأمانة والصدق ، والأخير هذيان المبرسمين لأنهم أعرف الناس بالتمييز بين المنظوم والمنثور طبعاً وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام الذي لا يشبه بليغات خطبهم فضلاً عن ذلك وبين محسنات الشهر ومحسنات هذا النثر هذا فيما يرجع إلى الصورة وحدها ، ثم إذا جئت إلى المادة وتركب الشعر من المخيلات والمعاني النازلة التي يهتدي إليها الإجلاف وهذا من اليقينيات العقدية والدينيات العملية التي عليها مدار المعاد والمعاش وبها تتفاضل الإشراف فأظهر وأظهر ، هذا والقائل عليه الصلاة والتسليم ممن لا يتسهل له الشعر وان أراده خالطوه وذاقوه أربعين سنة اه .

وكون تركب الشعر من المخيلات باعتبار الغالب فلا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن من الشعر لحكمة " لأنه باعتبار الندرة ويؤيده التأكيد بأن الدالة على التردد فيه ، وقد جاء الشاعر بمعنى الكاذب بل قال الراغب : إن الشاعر في القرآن بمعنى الكاذب بالطبع ، وعليه يكون قد أرادوا قاتلهم الله تعالى بل هو وحاشاه ذو افتراءات كثيرة ، وليس في بل هنا على هذا الوجه إبطال بل إثبات للحكم الأول وزيادة عليه كما صرح بذلك الراغب ، وفي وقوعها للإبطال في كلام الله تعالى خلاف فاثبته ابن هشام ومثل له بقوله تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] ووهم ابن مالك في «شرح الكافية » فنفاه ، والحق أن الإبطال إن كان لما صدر عن الغير فهو واقع في القرآن وإن كان لما صدر عنه تعالى فغير واقع بل هو محال لأنه بداء ، وربما يقال : مراد ابن مالك بالمنفى الضرب الثاني ، ثم إن هذا الوجه وإن كان فيه بعد لا يخلو عن حسن كما قيل فتدبر .

{ بَلْ قَالُواْ } جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله عز وجل كما يقول فليأتنا بآية { كَمَا أُرْسِلَ الأولون } وقدر النيسابوري غير هذا الشرط فقال أخذا من كلام الإمام في بيان حاصل معنى الآية : إنهم أنكروا أولاً كون الرسول من جنس البشر ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة وما كل خارق لها معجز فقد يكون سحراً هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن لعادة لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فانا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث احلام سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده سلمنا أنه كلام فصيح لكنه لا يتجاوز فصاحة الشعر وإذا كان حال هذا المعجز هكذا فليأتنا بآية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كما أرسل الأولون انتهى وهو كما ترى .

وما موصولة في محل الجر بالكاف والجملة بعدها صلة والعائد محذوف ، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع صفة لآية أي فليأتنا بآية مثل الآية التي أرسل بها الأولون ، ولا يضر فقد بعض شروط جواز حذف العائد المجرور بالحرف إذ لا اتفاق على اشتراط طلك ، ومن استرط اعتبر العائد المحذوف هنا منصوباً من باب الحذف والإيصال ، وهو مهيع واسع ، وأرادوا بالآية المشبة بها كما روي عن ابن عباش رضي الله تعالى عنهما الناقة والعصا ونحوهما ، وكان الظاهر أن يقال فليأتنا بما أتى به الأولون أو بمثل ما أتى به الأولون إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لدلالته على ما دل عليه مع زيادة كونه مرسلاً به من الله عز وجل ، وفي التعبير في حقه صلى الله عليه وسلم بالاتيان والعدول عن الظاهر فيما بعده إيتاء إلى أن ما أتى به صلى الله عليه وسلم من عنده وما أتى به الأولون من الله تبارك وتعالى ففيه تعريض مناسب لما قبله من الافتراء قاله الخفاجي وذكر أن ما قيل إن العدول عن كما أتى به الأولون لأن مرادهم اقتراح آية مثل آية موسى وآية عيسى عليهما السلام لا غيرهما مما أتى به سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن العلامة البيضاوي أشار إلى ذلك مما لا وجه له ، وجوز أن تكون ما مصدرية والكاف منصوبة على أنها مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف أي فليأتنا بآية إتياناً كائناً مثل إرسال الأولين بها وصحة التشبيه من حيث أن المراد مثل اتيان الأولين بها لأن ارسال الرسل عليهم السلام متضمن الإتيان المذكور كما في الكشاف ، وفي الكشف أنه يدل على أن قوله تعالى : { كَمَا أُرْسِلَ الأولون } كناية في هذا المقام ، وفائدة العدول بعد حسن الكناية تحقيق كونها آية بمثلها تثبت الرسالة لا تنازع فيها ويترتب المقصود عليها ، والقول بأن الإرسال المشبه به مصدر المجهول ومعناه كونه مرسلاً من الله تعالى بالآيات لا يسمن ولا يغنى في توجيه التشبيه لأن ذلك مغاير للإتيان أيضاً وإن لم ينفك عنه ، وقيل يجوز أن يحمل النظم الكريم على أنه أريد كل واحد من الإتيان والإرسال في كل واحد من طرفي التشبيه لكنه ترك في جانب المشبه ذكر الإرسال ، وفي جانب المشبه به ذكر الإتيان اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في الموطن الآخر ، ولا يخفى بعده ، ثم أن الظاهر أن إقرارهم بإرسال الأولين ليس عن صميم الفؤاد بل هو أمر اقتضاه اضطرابهم وتحيرهم ، وذكر بعض الأجلة أنّ مما يرجح الحمل على أن ما تقدم حكاية أقوالهم المضطربة هذه الحكاية لأنهم منعوا أولاً أن يكون الرسول بشراً وبتوا القول به وبنوا ما بنوا ثم سلموا أن الأولين كانوا ذوي آيات وطالبوه عليه الصلاة والسلام بالاتيان بنحو ما أتوا به منها ، وعلى وجه التنزيل لأقوالهم على درج الفساد يحمل هذا على أنه تنزل منهم ، والعدول إلى الكناية لتحقيق تنزله عن شأوهم انتهى فتأمل ولا تغفل .