وأما الرد الثانى فقال فيه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } .
أى : لو جعلنا الرسول من الملائكة - كما اقترحوا - لكانت الحكمة تقتضى أن نجعله فى صورة بشر ليتمكنوا من رؤيته ومن سماع كلامه الذى يبلغه عن الله - تعالى - وفى هذه الحالة سيقولون لهذا الملك المرسل إليهم فى صورة بشر - : لست ملكا ، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية التى تمثل بها ، وحينئذ يقعون فى نفس اللبس والاشتباه الذى يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشراً .
ومعنى { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } لخلطنا عليهم مثل ما يخلطون على أنفسهم بسبب استبعادهم أن يكون الرسول بشراً مثلهم .
قال الإمام القرطبى : قوله تعالى { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } لأن كل جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه ، فلو جعل الله تعالى - الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته ولما أنسوا به ، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ، ما يكفيهم عن كلامه ويمنعهم عن سؤاله فلا تعم المصلحة ، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا : لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك ، وعادوا إلى مثل حالهم " .
وبهذين الجوابين الحكيمين يكون القرآن الكريم قد دحض شبهات أولئك الجاحدين ، وبين أن الحكمة تقتضى أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم ، قال تعالى : - { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى }
وقوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أي : ولو أنزلنا مع الرسول البَشَرِيّ ملكًا ، أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيًا{[10576]} لكان على هيئة رجل لتُفْهَم{[10577]} مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما يلبسون{[10578]} على أنفسهم في قبول رسالة البشري ، كما قال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا } [ الإسراء : 95 ] ، فمن رحمة الله{[10579]} تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ، ليدعو بعضهم بعضا ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال ، كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية [ آل عمران : 164 ] .
قال الضحاك ، عن ابن عباس في [ قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا } ]{[10580]} الآية . يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل ؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون . وقال الوالبي عنه : ولشبهنا عليهم .
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلين بي ، القائلين : لولا أنزل على محمد ملك بتصديقه ملكا ينزل عليهم من السماء ، ويشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم ويأمرهم باتباعه ، لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً يقول : لجعلناه في صورة رجل من البشر ، لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته . يقول : وإذا كان ذلك كذلك ، فسواء أنزلت عليهم بذلك ملكا أو بشرا ، إذ كنت إذا أنزلت عليهم مَلَكا إنما أنزله بصورة إنسيّ ، وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابته بأنك صادق وأن ما جئتهم به حقّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً يقول : ما أتاهم إلا في صورة رجل ، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً في صورة رجل في خلق رجل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً يقول : لو بعثنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة آدمي .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً يقول : في صورة آدميّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، حدثنا قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكا لَجَعَلْناه رَجُلاً قال : لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل ، لم نرسله في صورة الملائكة .
القول في تأويل قوله تعالى : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ : ولو أنزلنا ملكا من السماء مصدّقا لك يا محمد ، شاهدا لك عند هؤلاء العادلين بي الجاحدين آياتك على حقيقة نبوّتك ، فجعلناه في صورة رجل من بني آدم إذ كانوا لا يطيقون رؤية الملَك بصورته التي خلفته بها ، التبس عليهم أمره فلم يدروا ملك هو أم أنسيّ ، فلم يوقنوا به أنه ملك ولم يصدّقوا به ، وقالوا : ليس هذا ملكا ، وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقية أمرك وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك . يقال منه : لَبَسْتُ عليهم الأمر ألْبِسُهُ لَبْسا : إذا خلطته عليهم ، ولَبِسْتُ الثوبَ ألْبَسُهُ لُبْسا ، واللّبُوس : اسم الثياب .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول : لشبهنا عليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول : ما لبس قوم على أنفسهم إلا لبس الله عليهم واللبس : إنما هو من الناس .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يقول : شبّهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم .
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك قول آخر ، وهو ما :
حدثني به محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ فهم أهل الكتاب فارقوا دينهم وكذّبوا رسلهم ، وهو تحريف الكلام عن مواضعه .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : وَللَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يعني التحريف : هم أهل الكتاب ، فرّقوا ودينهم وكذّبوا رسلهم ، فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم .
وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الاَيات من أوّل السورة بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الأوثان أشبه منها بأمر أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، بما أغنى عن إعادته .
{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } فإن أهل التأويل مجمعون أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته ، فالأولى في قول { لقضي الأمر } أي لماتوا من هول رؤيته ، { ينظرون } معناه يؤخرون ، والنظرة التأخير ، وقوله عز وجل : { ولو جعلناه } الآية المعنى : أنَّا لو جعلناه ملكاً لجعلناه ولا بد في خلق رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته ، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد .
قال القاضي أبو محمد : ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر ليريا ما يكون في حرب النبي عليه السلام للمشركين ، فسمعا حس الملائكة وقائلاً يقول في السماء ، أقدم حيزوم{[4829]} فمات أحدهما لهول ذلك ، فكيف برؤية ملك في خلقته ، ولا يعارض هذا برؤية النبي عليه السلام لجبريل وغيره في صورهم ، لأن النبي عليه السلام أعطي قوة غير هذه كلها{[4830]} صلى الله عليه وسلم ، { وللبسنا } أي لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم وعلى ضعفتهم ، أي : لفعلنا لهم في ذلك فعلاً ملبساً ُيَطِّرُق لهم{[4831]} إلى أن يلبسوا به ، وذلك لا يحسن ، ويحتمل الكلام مقصداً آخر ، أي «للبسنا » نحن عليهم كما «يلبسون » هم على ضعفتهم فكنا ننهاهم عن التلبيس ونفعله بهم ، ويقال : لبس الرجل الأمر يلبسه لبساً إذا خلطه ، وقرأ ابن محيصن «ولَبّسنا » بفتح اللام وشد الباء ، وذكر بعض الناس في هذه الآية : أنها نزلت في أهل الكتاب ، وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب .