ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله في كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين فقال - تعالى - : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } .
أى : أن من مظاهر فضل الله عليك يا محمد أن أيدك - سبحانه - بنصره وأن أيدك بالمؤمنين ، بأن حبب إليهم الإِيمان وزينه في قلوبهم ، وجعل منهم قوة موحدة ، فصاروا بفضله - تعالى - كالنفس الواحدة ، بعد أن كانوا متنازعين متفرقين وأنت يا محمد { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً } من الذهب والفضة وغيرهما ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم المتنافرة المتنازعة { ولكن الله } بفضله وقدرته هو وحده الذي { أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } فصاروا إخواناً متحابين متصافين { إِنَّهُ } - سبحانه - { عَزِيزٌ } أى : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن { حَكِيمٌ } في كل أفعاله وأحكامه .
وهذه الآية الكريمة يؤديها التاريخ ، ويشهد بصدقها أحداثه ، فنحن نعلم أن العرب - وخصوصاً الأوس والخزرج - كانوا قبل الإِسلام في حالة شديدة من التفرق والتخاصم والتنزاع والتحارب . . فلما دخلوا في الإِسلام تحول بغضهم إلى حب ، وتخاصمهم إلى مودة ، وتفرقهم إلى اتحاد . . وصاروا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، إلى مستوى لم يعرفه التاريخ من قبل . .
ولقد أجاد صاحب الكشاف - رحمه الله - في تصويره لهذه المعانى حيث قال : " التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة ، لأن العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة . . لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب ، في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كيف يشاء ، ويصنع فيها ما يريد .
قيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم . ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى . وبينهم الثأر الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس . وعادة كل طائفتين كانتا بهذه الماثبة أن تتجنب هذه ما ىثرته أختها ، وتكرهه وتنفر منه .
فأنساهم الله - تعالى - ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصاراً ، وعادوا أعواناً ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته " . هذا ، وفى الصحيحين " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الأنصار في شأن غنائم " حنين " قال لهم : يا معشر الأنصار ! ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ؛ وعالة فأغناكم الله بى ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بى ؟ فكانوا يقولون كلما قال شيئا : الله ورسوله أعلم " .
وروى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لقتطع ، وإن النعمة لتنكر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شئ . ثم يقرأ قوله - تعالى - : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } .
ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ، { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } أي : كافيك وحده .
ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ؛ فقال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ آل عمران : 103 ] .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : " يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أَمَنَّ . {[13127]}
ولهذا قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه .
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن{[13128]} القنديلي الإستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ؛ يقول الله تعالى : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وذلك موجود في الشعر : إذا مَتَّ ذو القربى إليك برحمه فَغَشَّك واستَغْنى فليس بذي رحم
ولكن ذا القربى الذي إن دعوته أجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تُقَرّب قاطعا *** وإذا المودة أَقْرَبُ الأسْبَاب
قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس ، أو هو من قول من دونه من الرواة ؟{[13129]}
وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } الآية ، قال : هم المتحابون في الله ، وفي رواية : نزلت في المتحابين في الله .
رواه النسائي والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح{[13130]}
وقال عبد الرازق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }
وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لُبَابة ، عن مجاهد - ولقيته فأخذ بيدي فقال : إذا تراءى المتحابان في الله ، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ، وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر . قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير ! فقال : لا تقل ذلك ؛ فإن الله تعالى يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ! . قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني{[13131]}
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان{[13132]} عن إبراهيم الخوزي{[13133]} عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال : قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني .
وكذا روى طلحة بن مُصَرِّف ، عن مجاهد .
وقال ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : كنا نحدث{[13134]} أن أول ما يرفع من الناس - [ أو قال : عن الناس ]{[13135]} - الألفة .
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، رحمه الله : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار{[13136]} {[13137]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلََكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
يريد جلّ ثناؤه بقوله : وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج بعد التفرّق والتشتت على دينه الحقّ ، فصيرهم به جميعا بعد أن كانوا أشتاتا ، وإخوانا بعد أن كانوا أعداء .
وقوله : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لو أنفقت يا محمد ما في الأرض جميعا من ذهب وورق وعرض ، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيلك ، ولكن الله جمعها على الهدى ، فائتلفت واجتمعت تقوية من الله لك وتأييدا منه ومعونة على عدوّك . يقول جلّ ثناؤه : والذي فعل ذلك وسببه لك حتى صاروا لك أعوانا وأنصارا ويدا واحدة على من بغاك سوءا هو الذي إن رام عدوّ منك مراما يكفيك كيده وينصرك عليه ، فثق به وامض لأمره وتوكل عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ قال : هؤلاء الأنصار ألف بين قلوبهم من بعد حرب فيما كان بينهم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن بشير بن ثابت رجل من الأنصار ، أنه قال في هذه الاَية : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ يعني الأنصار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ على الهدى الذي بعثك به إليهم . لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ وَلَكِنّ اللّهَ ألّفَ بَيْنَهُمْ بدينه الذي جمعهم عليه ، يعني الأوس والخزرج .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن إبراهيم الجزري ، عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما . قال : قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عُمير ، قال : ثني الوليد ، عن أبي عمرو ، قال : ثني عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد ، ولقيته وأخذ بيدي ، فقال : إذا تراءى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحاتّ ورق الشجر . قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير قال : لا تقل ذلك ، فإن الله يقول : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ . قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني .
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا فضيل بن غزوان ، قال : أتيت أبا إسحاق ، فسلمت عليه فقلت : أتعرفني ؟ فقال فضيل : نعم لولا الحياء منك لقبلتك .
حدثني أبو الأحوص ، عن عبد الله ، قال : نزلت هذه الاَية في المتحابين في الله : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، قال : كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس أو قال عن الناس الألفة .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، عن الأوزاعي ، قال : ثني عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد ، ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم ، عن الوليد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة وابن نمير وحفص بن غياث ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، قال : سمعت عبد الله يقول : لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ . . . الاَية ، قال : هم المتحابون في الله .
وقوله : إنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يقول : إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما وجعلهم لك أنصارا عزيز لا يقهره شيء ولا يردّ قضاءه رادّ ، ولكنه ينفذ في خلقه حكمه . يقول : فعليه فتوكل ، وبه فثق ، حَكِيمٌ في تدبير خلقه .
الضمير في قوله { وإن يريدوا } عائد على الكفار الذين قيل فيهم ، { وإن جنحوا } [ الأنفال : 61 ] وقوله : { وإن يريدوا أن يخدعوك } يريد بأن يظهروا له السلم ويبطنوا الغدر والخيانة ، أي فاجنح وما عليك من نياتهم الفاسدة ، { فإن حسبك الله } أي كافيك ومعطيك نصرة وإظهاراً ، وهذا وعد محض ، و { أيدك } معناه قواك ، { وبالمؤمنين } يريد بالأنصار بقرينة قوله { وألف بين قلوبهم } الآية ، وهذه إشارة إلى العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في حروب بعاث فألف الله تعالى قلوبهم على الإسلام وردهم متحابين في الله ، وعددت هذه النعمة تأنيساً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي كما لطف بك ربك أولاً فكذلك يفعل آخراً ، وقال ابن مسعود : نزلت هذه الآية في المتحابين في الله إذا تراءى المتحابان فتصافحا وتضاحكا تحاتت خطاياهما ، فقال له َعْبَدة بن أبي لبابة إن هذا ليسير ، فقال له لا تقل ذلك فإن الله يقول { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم } قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله تمثل حسن بالآية لا أن الآية نزلت في ذلك بل تظاهرت أقوال المفسرين أنها في الأوس والخزرج كما ذكرنا ، ولو ذهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان من جميعهم من التحاب حتى تكون ألفة الأوس والخزرج جزءاً من ذلك لساغ ذلك ، وكل تآلف في الله فتابع لذلك التآلف الكائن في صدر الإسلام ، وقد روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «المؤمن مألفة ، لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف »{[5458]} .
قال القاضي أبو محمد : والتشابه هو سبب الألفة فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه .