ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى تخبر عن سنة من سننه فى الظالمين فقال : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } .
أى : وكثير من القرى الظالمة التى سبقتك - أيها الرسول الكريم - قد أهلكناها وأبدناها وجعلناها خاوية على عروشها .
والاستفهام فى قوله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } للنفى : أى : ما تحسن منهم أحداً ولا ترى منها دياراً . يقال : أحس الرجل الشىء إحساساً ، إذا علمه وشعر به .
وقوله { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } معطوف على ما قبله ، والركز . الصوت الخفى . ومنه قولهم : ركز فلان رمحه ، إذا غيب طرفه وأخفاه فى الأرض . ومنه الركاز للمال المدفون فى الأرض .
والمعنى : أهلكنا كثيراً من القرى الظالمة الماضية ، فأصبحت لا ترى منهم أحداً على الإطلاق ، ولا تسمع لهم صوتاً حتى ولو كان صوتاً خافتاً ضعيفاً وإنما هم فى سكون عميق ، وصمت رهيب ، بعد أن كانوا فوق هذه الأرض يدبون ويتحركون .
وهذه سنتنا التى لا تتخلف فى الظالمين . { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } نعوذ بالله - تعالى - من ذلك .
وبعد : فهذا تفسير لسورة مريم ، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده .
وقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله ، { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } أي : هل ترى منهم أحدًا ، أو تسمع لهم ركزًا .
قال ابن عباس ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جُبَير ، والضحاك ، وابن زيد : يعني : صوتًا .
وقال الحسن ، وقتادة : هل ترى عينًا ، أو تسمع صوتًا .
والركز في أصل اللغة : هو الصوت الخفي ، قال الشاعر{[19183]} :
فَتَوجست{[19184]} رِكْز الأنيس فَرَاعَها *** عَنْ ظَهْر غَيب والأنيسُ سَقَامُها
آخر تفسير " سورة مريم " ولله الحمد والمنة . ويتلوه إن شاء الله تعالى تفسير " سورة طه " والحمد لله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } .
يقول تعالى ذكره : وكثيرا أهلكنا يا محمد قبل قومك من مشركي قريش ، من قرن ، يعني من جماعة من الناس ، إذا سلكوا في خلافي وركوب معاصيّ مسلكهم ، هل تحس منهم من أحد : يقول : فهل تحسّ أنت منهم أحدا يا محمد ، فتراه وتعاينه أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا يقول : أو تسمع لهم صوتا ، بل بادوا وهلكوا ، وخَلَت منهم دورهم ، وأوحشت منهم منازلهم ، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلا صالح من عمل قدّموه ، فكذلك قومك هؤلاء ، صائرون إلى ما صار إليه أولئك ، إن لم يُعاجلوا التوبة قبل الهلاك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا قال : صوتا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزّاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا ؟ قال : هل ترى عينا ، أو تسمع صوتا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا ؟ يقول : هل تسمع من صوت ، أو ترى من عين ؟ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا يعني : صوتا .
حدثنا أبو كيب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : رِكْز الناس : أصواتهم . قال أبو كريب : قال سفيان : هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا ؟ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ أوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزا قال : أو تسمَع لهم حِسّا . قال : والركز : الحس .
قال أبو جعفر : والركز في كلام العرب : الصوت الخفيّ ، كما قال الشاعر :
فَتَوَجّسَتْ ذِكْرَ الأنِيسِ فَراعَها *** عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ والأنِيسُ سقَامُها
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.