التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

ولكن هذه النصيحة الحكيمة الغالية من إبراهيم لأبيه ، لم تصادف أذناً واعية ولم تحظ من أبيه بالقبول بل قوبلت بالاستنكار والتهديد فقد قال الأب لكافر لابنه المؤمن : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً } .

والاستفهام فى قوله { أَرَاغِبٌ } للإنكار والتهديد والرغبة عن الشىء : تركه عمداً زهدا فيه لعدم الحاجة إليه .

ولفظ { أَرَاغِبٌ } مبتدأ ، { أَنتَ } فاعل سد مسد الخبر ، و { مَلِيّاً } أى : زمنا طويلا ، مأخوذ من الملاوة ، وهى الفترة الطويلة من الزمان ، ويقال الليل والنهار : الملوان .

والمعنى : قال والد إبراهيم له على سبيل التهديد والوعيد ، أتارك أنت يا إبراهيم عبادة آلهتى ، وكاره لتقرب الناس إليها ، ومنفرهم منها لئن لم تنته عن هذا المسلك ، { لأَرْجُمَنَّكَ } بالحجارة وبالكلام القبيح { واهجرني مَلِيّاً } بأن تغرب عن وجهى زمنا طويلا لا أحب أن أراك فيه .

وهكذا قابل الأب الكافر أدب ابنه المؤمن ، بالفظاظة والغلظة والتهديد والعناد والجهالة . . . شأن القلب الذى أفسده الكفر .

ولكن إبراهيم - عليه السلام - لم يقابل فظاظة أبيه وتهديده بالغضب والضيق ، بل قابل ذلك بسعة الصدر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

ولكن هذه الدعوة اللطيفة بأحب الألفاظ وأرقها لا تصل إلى القلب المشرك الجاسي ، فإذا أبو إبراهيم يقابله بالاستنكار والتهديد والوعيد :

( قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ? لئن لم تنته لأرجمنك . واهجرني مليا ) .

أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ، وكاره لعبادتها ومعرض عنها ? أو بلغ بك الأمر إلى هذا الحد من الجراءة ? ! فهذا إنذار لك بالموت الفظيع إن أنت أصررت على هذا الموقف الشنيع : ( لئن لم تنته لأرجمنك ) ! فاغرب عن وجهي وابعد عني طويلا . استبقاء لحياتك إن كنت تريد النجاة : ( واهجرني مليا ) . .

بهذه الجهالة تلقى الرجل الدعوة إلى الهدى . وبهذه القسوة قابل القول المؤدب المهذب . وذلك شأن الإيمان مع الكفر ؛ وشأن القلب الذي هذبه الإيمان والقلب الذي أفسده الكفر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنۡ ءَالِهَتِي يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا} (46)

فصلت جملة : { قال . . . } لوقوعها في المحاورة كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .

والاستفهام للإنكار إنكاراً لتجافي إبراهيم عن عبادة أصنامهم . وإضافة الآلهة إلى ضمير نفسه إضافة ولاية وانتساب إلى المضاف لقصد تشريف المضاف إليه .

وقد جاء في جوابه دعوة ابنه بمنتهى الجفاء والعُنجهية بعكسِ ما في كلام إبراهيم من الليّن والرقة ، فدلّ ذلك على أنه كان قاسيَ القلب ، بعيد الفهم ، شديد التصلّب في الكفر .

وجملة أراغب أنت جملة اسمية مركبة من مبتدأ وفاعل سدّ مسدّ الخبر على اصطلاح النحاة طرداً لقواعد التركيب اللفظي ، ولكنهم لما اعتبروا الاسم الواقع ثانياً بعد الوصف فاعلاً سادّاً مسدّ الخبر فقد أثبتوا لذلك الاسم حكم المسند إليه وصار للوصف المبتدأ حكم المُسند . فمن أجل ذلك كان المصير إلى مثل هذا النظم في نظر البلغاء هو مقتضى كون المقام يتطلّب جملة اسمية للدلالة على ثباتٍ المسند إليه ، ويتطلّب الاهتمام بالوصف دون الاسم لغرض يوجب الاهتمام به ، فيلتجىء البليغ إلى الإتيان بالوصف أولاً والإتيان بالاسم ثانياً .

ولمّا كان الوصف له عملُ فعله تعين على النحاة اعتبار الوصف مبتدأ لأن للمبتدأ عراقةً في الأسماء ، واعتباره مع ذلك متطلّباً فاعلاً ، وجعلوا فاعله سادّاً مسدّ الخبر ، فصار للتركيب شبهان . والتحقيقُ أنه في قوّة خبر مقدم ومبتدأ مؤخر . ولهذا نظر الزمخشري في الكشاف إلى هذا المقصد فقال : قُدم الخبر على المبتدأ في قوله : { أراغب أنت عن آلهتي } لأنه كان أهمّ عنده وهو به أعنى اه . ولله دره ، وإن ضاع بين أكثر الناظرين دُرُّه . فدل النظم في هذه الآية على أن أبا إبراهيم ينكر على إبراهيم تمكن الرغبة عن آلهتهم من نفسه ، ويهتم بأمر الرغبة عن الآلهة لأنها موضع عَجب .

والنداء في قوله { يا إبراهيم } تكملة لجملة الإنكار والتعجب ، لأنّ المتعجب من فعله مع حضوره يقصد بندائه تنبيهه على سوء فعله ، كأنه في غيبة عن إدراك فعله ، فالمتكلم ينزله منزلة الغائب فيناديه لإرجاع رشده إليه ، فينبغي الوقف على قوله يا إبراهيم .

وجملة { لئن لم تنته لأرجمنك } مستأنفة .

واللام موطئة للقسم تأكيداً لكونه راجمهُ إن لم ينته عن كفره بآلهتهم .

والرجم : الرمي بالحجارة ، وهو كناية مشهورة في معنى القتل بذلك الرمي . وإسنادُ أبي إبراهيم ذلك إلى نفسه يحتمل الحقيقة ؛ إما لأنه كان من عادتهم أن الوالد يتحكم في عقوبة ابنه ، وإما لأنه كان حاكماً في قومه . ويحتمل المجاز العقلي إذ لعله كان كبيراً في دينهم فيرجم قومُه إبراهيمَ استناداً لحكمه بمروقه عن دينهم .

وجملة { واهجرني مليا } عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك ؛ وذلك أنه هدّده بعقوبة آجلة إن لم يقلع عن كفره بآلهتهم ، وبعقوبة عاجلة وهي طردهُ من معاشرته وقطع مكالمته .

والهجر : قطع المكالمة وقطع المعاشرة ، وإنما أمر أبو إبراهيم ابنَه بهجرانه ولم يخبره بأنه هو يهجره ليدلّ على أن هذا الهجران في معنى الطرد والخَلْع إشعاراً بتحقيره .

ومليا : طويلاً ، وهو فعيل ، ولا يعرف له فعل مجرد ولا مصدر . فمليّ مشتق من مصدر مُمات ، وهو فعيل بمعنى فاعل لأنه يقال : أملى له ، إذا أطال له المدة ، فيأتون بهمزة التعدية ، فمليا صفة لمصدر محذوف منصوب على المفعولية المطلقة ، أي هجراً مَليّاً ، ومنه الملاوة من الدهر للمدة المديدة من الزمان ، وهذه المادة تدلّ على كثرة الشيء .

ويجوز أن ينتصب على الصفة لظرف محذوف ، أي زماناً طويلاً ، بناء على أن المَلا مقصوراً غالب في الزمان فذكره يغني عن ذكر موصوفه كقوله تعالى : { وحملناه على ذات ألواح } [ القمر : 13 ] ، أي سفينة ذات ألواح .