وبعد أن فصلت السورة الكريمة ما فصلت من أحكام ، وأرشدت إلى ما أرشدت من أداب ، وقصت ما قصت من أحداث . . بعد كل ذلك وجهت فى أواخرها نداءين إلى المؤمنين ، أمرتهم فيهما بتقوى الله - تعالى - وبالاقتداء بالأخيار من عباده ، وباجتناب بسلوك الأشرار ، كما ذكرتهم بثقل الأمانة التى رضوا بحلمها ، وبحسن عاقبة الصالحين وسوء عاقبة المكذبين ، قال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ . . . . وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .
والمراد بالذين آذوا موسى - عليه السلام - فى قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى } قومه الذين أرسله الله إليهم .
فقد حكى القرآن الكريم ألوانا من إيذائهم له ، ومن ذلك قولهم له : { ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ . . . } وقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } ومن إيذائهم له - عليه السلام - ما رواه الإِمام البخارى والترمذى عن أبى هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شئ ، فآذاه من آذاه من بنى إسرائيل ، وقالوا : ما يستتر إلا من عيب بجلده ، إما برص ، وإما آفة . وإن الله - تعالى - أراد أن يبرئه مما قالوا ، وإن موسى خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل عى ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، وأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبى حجر ، ثوبى حجر حتى انتهى إلا ملأ بنى إسرائيل ، فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله - تعالى - ، وأبرأه الله - تعالى مما يقولون . . " فذلك قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى } .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإِيمان ، التزموا الأدب والطاعة والاحترام لنبيكم صلى الله عليه وسلم واحذروا أن تسلكوا معه المسلك الذى سلكه بنو إسرائيل مع نبيهم موسى - عليه السلام - حيث آذوه بشتى أنواع الأذى .
وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ . . . } واتخاذهم العجل إلها من دون الله فى غيبة نبيهم موسى - عليه السلام - . .
{ فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } أى : فأظهر الله - تعالى - براءته من كل ما نسبوه إليه من سوء .
{ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } أى : وكان عند الله - تعالى - ذا جاه عظيم ، ومكانه سامية ، ومنزلة عالية ، حيث نصره - سبحانه - عليهم ، واصطفاه لحمل رسالته . .
يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه ، إذا كان ذا جاه وقدر . .
ويبدو أن زواج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش - رضي الله عنها - مخالفا في ذلك عرف الجاهلية الذي تعمد الإسلام أن يبطله بهذه السابقة العملية . يبدو أن هذا الزواج لم يمر بسهولة ويسر ؛ وأنه قد انطلقت ألسنة كثيرة من المنافقين ومرضى القلوب ، وغير المتثبتين الذين لم يتضح في نفوسهم التصور الإسلامي الناصع البسيط ، انطلقت تغمز وتلمز ، وتؤول وتعترض ، وتهمس وتوسوس . وتقول قولا عظيما !
والمنافقون والمرجفون لم يكونوا يسكتون . فقد كانوا ينتهزون كل فرصة لبث سمومهم . كالذي رأينا في غزوة الأحزاب . وفي حديث الإفك . وفي قسمة الفيء . وفي كل مناسبة تعرض لإيذاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بغير حق .
وفي هذا الوقت - بعد إجلاء بني قريظة وسائر اليهود من قبل - لم يكن في المدينة من هو ظاهر بالكفر . فقد أصبح أهلها كلهم مسلمين ، إما صادقين في إسلامهم وإما منافقين . وكان المنافقون هم الذين يروجون الشائعات ، وينشرون الأكاذيب ، وكان بعض المؤمنين يقع في حبائلهم ، ويسايرهم في بعض ما يروجون . فجاء القرآن يحذرهم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل نبيهم موسى - عليه السلام - ويوجههم إلى تسديد القول ، وعدم إلقائه على عواهنه ، بغير ضبط ولا دقة ؛ ويحببهم في طاعة الله ورسوله وما وراءها من فوز عظيم : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا . وكان عند الله وجيها . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ، يصلح لكم أعمالكم ، ويغفر لكم ذنوبكم . ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) . .
ولم يحدد القرآن نوع الإيذاء لموسى ؛ ولكن وردت روايات تعينه . ونحن لا نرى بنا من حاجة للخوض في هذا الذي أجمله القرآن . فإنما أراد الله تحذير الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي [ صلى الله عليه وسلم ]
وقد ضرب بني إسرائيل مثلا للالتواء والانحراف في مواضع من القرآن كثيرة . فيكفي أن يشير إلى إيذائهم لنبيهم . وتحذير المسلمين من متابعتهم فيه ، لينفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلا صارخا للانحراف والالتواء .
وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه ، ( وكان عند الله وجيها )ذا وجاهة وذا مكانة . والله مبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبا وبهتانا . ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] أفضل الرسل أولاهم بتبرئة الله له والدفاع عنه .
لما تقضى وعيد الذين يؤذون الرسول عليه الصلاة والسلام بالتكذيب ونحوه من الأذى المنبعث عن كفرهم من المشركين والمنافقين من قوله : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } [ الأحزاب : 57 ] حذر المؤمنين مما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بتنزيههم عن أن يكونوا مثل قوم نَسبوا إلى رسولهم ما هو أذى له وهم لا يعبأون بما في ذلك من إغضابه الذي فيه غضب الله تعالى . ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة أصحابه عما يوجبه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحفّ بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل يترتب عليه من إخلال بالواجبات . وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم ، نبه الله المؤمنين كي لا يَقعُوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير ، فكانت حَرية بالإِيقاظ والتحذير . وفائدة التشبيه تشويه الحالة المشبَّهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبْح ما أوذي به موسى عليه السلام بما سبق من القرآن كقوله : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] الآية .
والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم . وقد حكى الله عنهم ذلك إجالاً وتفصيلاً بقوله : { وإذ قال موسى لقومه } الآية ( فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله : { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } والاستفهام في قوله : { لم تؤذونني } إنكاري ) . فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإِذاية . فالذين آذوا موسى قالوا مرة { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون } [ المائدة : 24 ]
فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم . وقالوا مرة { أَتتَّخِذُنا هزؤا } [ البقرة : 67 ] فنسبوه إلى الطيش ولاسخرية ولذلك قال لهم { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] . وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج « وقالوا لموسى فإذا صنعت بنا حتى أخرجتنا
من مصر فإنه خير لنا أن نخدُم المصريين من أن نموت في البرية » . وفي الإصحاجح السادس عشر « وقالوا لموسى وهراون إنكما أخرجتمونا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع » . وفي الحديث « إن موسى كان رجلاً حييّاً ستِّيراً فقال فريق من قومه : ما
نراه يستتر إلا مِن عاهة فيه . فقال قوم : به برص ، وقال قوم : هو آدر » ونحو هذا ، وكان قريباً من هذا قول المنافقين : إن محمداً تزوج مطلقة ابنه زيد بن حارثة . وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبيء صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضَت فلتاتٌ من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حَكَم بينه وبين الزُبير في ماء شراح الحَرّة : أنْ كان ابنَ عمتِك يا رسول الله . ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمَة مغانم حُنين : « هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبَر » .
واعلم أن محل الشتبيه هو قوله : { كالذين آذوا موسى } دون ما فرع عليه من قوله : { فبرأه الله مما قالوا } وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا ، ولا اتصال له بوجه التشبيه لأن نبيئنا صلى الله عليه وسلم لم يُوذَ إيذاء يقتضي ظهور براءته ما أوذي به .
ومعنى « بَرَّأه » أظهر براءته عيَاناً لأن موسى كان بريئاً مما قالوه من قبل أن يؤذوه بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإِن الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبّت قلوبهم وافتتحوها وأظهر
براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من قتل النفس التي ادّارأوا فيها .
وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عرياناً لما انتقل الحجر الذي عليه ثيابه . ومعنى : « برأه مما قالوا » برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد حصل وأوذي به وهذا كما سموا السُّبة القالة . ونظيره قوله تعالى : { ونرثه ما يقول } [ مريم : 80 ] ،
أي ما دل عليه مقاله وهو قوله : { لأوتين مالاً وولداً } [ مريم : 77 ] أي نرثه ماله وولده . وجملة { وكان عند الله وجيهاً } معترضة في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله بتبرئته . والوجيه صفة مشبهة ، أي ذو الوجاهة . وهي الجاه وحسن القبول عند الناس . يقال : وجُه الرجل ، بضم الجيم ، وجاهة فهو وجيه . وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجْه الذي للإِنسان ، فمعنى كونه وجيهاً عند الله أنه مرضيّ عنه مقبول مغفور له مستجاب الدعوة .
وقد تقدم قوله تعالى : { وجيهاً في الدنيا والآخرة } في سورة [ آل عمران : 45 ] ، فضُمّه إلى هنا . وذكر فعل { كان } دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى . وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه ، وتنويه وتوجيه لتنزيه الله إياه لأنه مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل .