التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ} (111)

ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله الحواريون لعيسى ، وما طلبوه منه ، مما يدل على إكرام الله - تعالى - لنبيه عيسى فقال :

{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ . . . }

قال ابن كثير ما ملخصه : وقوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } هذا أيضاً من الامتنان على عيسى ، بأن جعل اله له أصحاباً وأنصاراً - وهم الحواريون - والمراد بهذا الوحي الإِلهام كما في قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } وكما في قوله { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } وقال بعض السلف في هذه الآية { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } أي : ألهموا ذلك فامتثلوا ما الهموا .

فأنت ترى أن الإِمام ابن كثير يرى أن المراد بالوحي هنا الإِلهام . وعلى ذلك كثير من المفسرين ، ومنهم من يرى أن المراد بقوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } أي : مرتهم في الإِنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي .

قال الآلوسي معززاً هذا الرأي : وقد جاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب ، كما قال الزجاج وأنشد :

الحمد لله الذي استقلت . . . بإذنه السماء وأطمأنت

أوحى لها القرار فاستقرت . . . أي : أمرها أن تقر فامتثلت .

والحواريون جمع حواري . وهم أنصار عيسى الذين لازموه وآمنوا به وصدقوه . وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق .

يقال : فلان حواري فلان . أي : خاصته من أصحابه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الزبير بن العوام : " لكل نبي حواري وحواري الزبير " .

وأصل مادة " حور " الدلالة على شدةء الصفاء ونصوع البياض ، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق : الحواري وقالوا في النساء البيض : الحواريات والحوريات .

وقد سمى الله - تعالى - أنصار عيسى بالحواريين ، لأنهم أخلصوا لله نياتهم ، وطهورا نفوسهم من النفاق والخداع فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشيء الأبيض الخالص البياض .

قال الراغب : والحواريون أنصار عيسى - عليه السلام - قيل كانوا صيادين وقال بعض العلماء إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم .

والمعنى : اذكر نعمتي عليك - يا عيسى - حين { أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } بطريق الإِلهام أو بطريق الأمر على لسانك ، وقلت لهم : { أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } أي : آمنوا وصدقوا بأني أنا الواحد الأحد المستحق للعبادة والخضوع وآمنوا برسولي عيسى بأنه مرسل من جهتي لهدايتكم وسعادتكم .

وفي ذكر كلمة { برسولي } إشارة إلى مقامه من الله - عز وجل - وانفصال شخصه عن ذات الله - سبحانه - وأن عيسى ما هو إلا رسول من رب العالمين وأن من زعموا أنه غير ذلك جاهلون وضالون .

وقوله : { قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } حكاية لما نطق به الحواريون من إيمان وطاعة .

أي : أن الحورايين عندما دعو إلى الدين الحق { قالوا آمَنَّا } بأن الله هو الواحد الأحد المستحق للعبادة وأنه لا والد له ولا ولد . ثم أكدوا إيمانهم هذا ، بأن قالوا { واشهد } علينا يا آلهنا واشهد لنا يا عيسى يوم القيامة { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لكل ما جئتنا به وما تدعونا إليه .

وقدموا ذكر الإِيمان لأنه صفة القلب ، وأخروا ذكر الإِسلام لأنه عبارة عن الانقياد الظاهر فكأنهم قالوا : لقد استقر الإيمان في قلوبنا استقراراً مكيناً ، كان من ثماره أن انقادت ظواهرنا لكل ما يأمرنا الله به على لسانك يا عيسى .

قال الفخر الرازي ما ملخصه : فإن قيل : إنه - تعالى - قال في أول الآية { اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ } ثم إن جميع ما ذكره - تعالى - من النعم مختص بعيسى ، وليس لأمه تعلق بشيء منها . قلنا : كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم ولذلك قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر .

وإنما ذكر - سبحانه قوله { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإِنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم ، من أعظم نعم الله على الإِنسان .

وقد عدد عليه من النعم سبعاً : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ } { وَإِذْ تَخْلُقُ } { وَإِذْ َتُبْرِىءُ } { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى } { وَإِذْ كَفَفْتُ } { وَإِذْ أَوْحَيْتُ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ} (111)

كذلك يذكره بنعمة الله عليه في إلهام الحواريين أن يؤمنوا بالله وبرسوله ؛ فإذا هم ملبون مستسلمون ، يشهدونه على إيمانهم وإسلامهم أنفسهم كاملة لله : ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي . قالوا : آمنا واشهد بأننا مسلمون ) . .

إنها النعم التي آتاها الله عيسى بن مريم ، لتكون له شهادة وبينة . فإذا كثرة من أتباعه تتخذ منها مادة للزيغ ؛ وتصوغ منها وحولها الأضاليل - فها هو ذا عيسى يواجه بها على مشهد من الملأ الأعلى ، ومن الناس جميعا ، ومنهم قومه الغالون فيه . . ها هو ذا يواجه بها ليسمع قومه ويروا ؛ وليكون الخزي أوجع وأفضح على مشهد من العالمين !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ} (111)

قوله تعالى : { وإذ أوحيت } هو من جملة تعديد النعمة على عيسى و { أوحيت } في هذا الموضع إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر كما قال الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** أوحى لها القرار فاستقرت{[4794]}

وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء أوصله تعالى إلى نفوسهم كيف شاء ، والرسول في هذه الآية عيسى عليه السلام ، وقول الحواريين { واشهد } يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله تعالى ويحتمل أن يكون لعيسى عليه السلام ، وقد تقدم تفسير لفظة الحواريين في آل عمران .


[4794]:- هكذا في الأصول (أوحى)، والبيت للعجاج، وتمامه كما رواه القرطبي: بإذنه الأرض وما تعنت وحى لها القرار فاستقرت ورواه في اللسان: وحى لها القرار فاستقرت وشدّها بالراسيات الثبت ورواه الألوسي هكذا: الحمد لله الذي استقلت بإذنه السماء واطمأنت أوحى لها القرار فاستقرت
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ} (111)

يجوز أن يكون عطفاً على جملة { إذْ أيَّدتك بروح القدس } [ المائدة : 110 ] ، فيكون من جملة ما يقوله الله لعيسى يوم يجمع الرسل . فإنّ إيمان الحواريّين نعمة على عيسى إذ لو لم يؤمنوا به لما وجد من يتّبع دينه فلا يحصل له الثواب المتجدّد بتجدد اهتداء الأجيال بدينه إلى أن جاء نسخه بالإسلام .

والمراد بالوحي إلى الحواريّين إلهامهم عند سماع دعوة عيسى للمبادرة بتصديقه ، فليس المراد بالوحي الذي به دعاهم عيسى . ويجوز أن يكون الوحيَ الذي أوحي به إلى عيسى ليدعو بني إسرائيل إلى دينه . وخُصّ الحواريّون به هنا تنويهاً بهم حتّى كأنّ الوحي بالدعوة لم يكن إلاّ لأجلهم ، لأنّ ذلك حصل لجميع بني إسرائيل فكفر أكثرهم على نحو قوله تعالى : { كما قال عيسى ابنُ مريم للحواريّين من أنصاري إلى الله قالَ الحواريّون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة } [ الصف : 14 ] ؛ فكان الحواريّون سابقين إلى الإيمان لم يتردّدوا في صدق عيسى . و { أنْ } تفسيرية للوحي الذي ألقاه الله في قلوب الحواريّين .

وفَصْل جملة { قالوا آمنَّا } لأنّها جوابُ ما فيه معنى القول ، وهو « أوحينا » ، على طريقة الفصل في المحاورة كما تقدّم في سورة البقرة ، وهو قول نفسي حصل حين ألقى الله في قلوبهم تصديق عيسى فكأنّه خاطبهم فأجابوه . والخطاب في قولهم : { واشهَدْ } لله تعالى وإنّما قالوا ذلك بكلام نفسي من لغتهم ، فحكى الله معناه بما يؤدّيه قوله : { واشهد بأنّنا مسلمون } . وسمّى إيمانهم إسلاماً لأنّه كان تصديقاً راسخاً قد ارتفعوا به عن مرتبة إيمان عامّة من آمن بالمسيح غيرهم ، فكانوا مماثلين لإيمان عيسى ، وهو إيمان الأنبياء والصدّيقيين ، وقد قدّمت بيانه في تفسير قوله تعالى : { ولكن كان حنفياً مسلماً } في سورة آل عمران ( 67 ) ، وفي تفسير قوله { فلا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون } في سورة البقرة ( 132 ) فارجع إليه .