ثم بين - سبحانه - مظاهر أخرى لتكريمه لهؤلاء العباد فقال : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ . . . } .
والصحاف : جمعي صحيفة ، وهى الآنية الواسعة الكبيرة التى توضع فيها الأطعمة .
والأكواب : جمع كوب وهو ما يوضع فيه الشراب .
وفى الكلام حذف يعرف من السياق ، والتقدير : يقال لهم : ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ، فإذا ما دخلوها واستقروا فيها ، يطاف عليهم بأطعمة وأشربة فى أوان من ذهب . ولم تذكر الأطعمة والشربة للعلم بها ، إذ لا معنى للطواف بالصحاف والأكواب وهى فارغة . .
{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } أى : وفى الجنة التى دخلوها كل ما تشتهيه الأنفس من أنواع المشتهيات ، وكل ما تتلذذ بين الأعين وتسر برؤيته .
{ وَأَنتُمْ } أيها المؤمنون { فِيهَا خَالِدُونَ } خلودا أبديا لا نهاية له .
ثم نشهد - بعين الخيال - فإذا صحاف من ذهب وأكواب يطاف بها عليهم . وإذا لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس . وفوق شهوة النفوس التذاذ العيون ، كمالاً وجمالاً في التكريم :
( يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب . وفيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ) . .
ومع هذا النعيم . ما هو أكبر منه وأفضل . التكريم بالخطاب من العلي الكريم :
( وأنتم فيها خالدون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون )فما بال المجرمين الذين تركناهم منذ هنيهة يتلاحون ويختصمون ?
{ يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب } الصحاف جمع صحفة ، والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له . { وفيها } وفي الجنة { ما تشتهي الأنفس } وقرأ نافع وابن عامر وحفص { تشتهيه الأنفس } على الأصل . { وتلذ الأعين } بمشاهدته وذلك تعميم بعد تخصيص ما يعد من الزوائد في التنعم والتلذذ . { وأنتم فيها خالدون } فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الحال .
جملة { يطاف عليهم بصحاف } الخ معترضة بين أجزاء القول فليس في ضمير { عليهم } التفات بل المقام لضمير الغيبة .
والصحاف : جمع صحفة ، وهي : إناء مستدير واسع الفم ينتهي أسفله بما يقارب التكوير . والصحفة : إناء لوضع الطعام أو الفاكهة مثل صحاف الفغفوري الصيني تسَع شِبْع خمسة ، وهي دون القصعة التي تسع شِبْع عشرة . وقد ورد أن عمر بن الخطاب اتخذ صِحافاً على عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤتى إليه بفاكهة أو طُرْفَة إلا أرسل إليهن منها في تلك الصحاف .
والأكواب : جمع كُوب بضم الكاف وهو إناء للشراب من ماء أو خمر مستطيل الشكل له عنق قصير في أعلى ذلك العنق فمه وهو مصبّ ما فيه ، وفمه أضيق من جوفه ، والأكثر أن لا تكون له عروة يُمسَك منها فيمسك بوضع اليد على عنقه ، وقد تكون له عروة قصيرة ، وهو أصغر من الإبريق إلا أنه لا خرطوم له ولا عروة في الغالب . وأما الإبريق فله عروة وخرطوم .
وحذف وصف الأكواب لدلالة وصف صحاف عليه ، أي وأكواب من ذهب . وهذه الأكواب تكون للماء وتكون للخمر .
وجملة { وفيها ما تشتهيه الأنفس } الخ حال من { الجنة } ، هي من بقية القول .
وضمير { فيها } عائد إلى { الجنة } ، وقد عمّ قوله : { ما تشتهيه الأنفس } كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله ، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو .
و { تَلَذُّ } مضارع لَذّ بوزن عَلِم : إذا أحسّ لذة ، وحق فعله أن يكون قاصراً فيعدّى إلى الشيء الذي به اللّذة بالباء فيقال : لذ به ، وكثر حذف الباء وإيصال الفعل إلى المجرور بنفسه فينتصب على نزع الخافض ، وكثر ذلك في الكلام حتى صار الفعل بِمَنزلة المتعدي فقالوا : لذّهُ . ومنه قوله هنا : { وتلذّ الأعين } التقدير ، وتلذُّهُ الأعين . والضمير المحذوف هو رابط الصلة بالموصول . ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس ، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف { وتلَذّ الأعين } على { ما تشتهيه الأنفس } عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عمومٌ وخصوص ، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماعِ الأصوات الحسنة والموسيقى . وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيتِه أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في صور جميلة إكمالاً للنعمة . و { الأنفس } فاعل { تلَذّ } وحْذف المفعول لظهوره من المقام .
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر { ما تشتهيه } بهاء ضمير عائد إلى { ما } الموصولة وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام ، وقرأه البَاقون { ما تشتهي } بحذف هاء الضمير ، وكذلك رُسم في مصحف مكة ومصحف البصرة ومصحف الكوفة . والمروي عن عاصم قارىء الكوفة روايتان : إحداهما أخذ بها حفص والأخرى أخذ بها أبو بكر . وحذف العائد المتصل المنصوب بفعل أو وصف من صلة الموصول كثير في الكلام .
وقوله : { وأنتم فيها خالدون } بشارة لهم بعدم انقطاع الحَبْرة وسعة الرزق ونيل الشهوات ، وجيء فيه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات تأكيداً لحقيقة الخلود لدفع توهم أن يراد به طول المدة فحسب .
وتقديم المجرور للاهتمام ، وعطف على بعض ما يقال لهم مقول آخر قُصد منه التنويه بالجنة وبالمؤمنين إذ أُعطوها بسبب أعمالهم الصالحة ، فأشير إلى الجنة باسم إشارة البعيد تعظيماً لشأنها وإلا فإنها حاضرة نصب أعينهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بصحاف من ذهب وأكواب} من فضة، يعني الأكواب التي ليس لها عرى مدورة الرأس في صفاء القوارير.
{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} لا تموتون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يُطاف على هؤلاء الذين آمنوا بآياته في الدنيا إذا دخلوا الجنة في الآخرة بصحاف من ذهب، وهي جمع للكثير من الصّحْفة، والصّحْفة: القصعة... وقوله:"وأكْوَابٍ" وهي جمع كوب، والكوب: الإبريق المستدير الرأس، الذي لا أذن له ولا خرطوم... ومعنى الكلام: يطاف عليهم فيها بالطعام في صِحاف من ذهب، وبالشراب في أكواب من ذهب، فاستغنى بذكر الصّحاف والأكواب من ذكر الطعام والشراب، الذي يكون فيها لمعرفة السامعين بمعناه. "وَفِيها ما تَشْتَهيه الأَنْفُسُ وَتَلَذّ الأَعْيُنُ "يقول تعالى ذكره: لكم في الجنة ما تشتهي نفوسكم أيها المؤمنون، وتلذّ أعينكم.
"وأنْتُمْ فِيها خالِدُونَ" يقول: وأنتم فيها ماكثون، لا تخرجون منها أبدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل ذكر الصحاف من الذهب والأكواب وجوها:
أحدها: ذكر ذلك لهم في الآخرة ترغيبا لهم فيها وتحريضا لما يرغبون بمثل ذلك إلى السعي للآخرة.
والثاني: يحتمل أن ما ذكر ذلك لأن أهل الدنيا كانوا يتفاخرون بهذه الأشياء في الدنيا، فيُخبِر أن لأوليائه ذلك في الآخرة وذلك دائم، وهذا فانٍ ولا عبرة للفاني، فما معنى الافتخار به؟
والثالث: يحتمل أنه ذكر ذلك لأنه حرّم عليهم الانتفاع في الدنيا باستعمال الذهب والفضة والحرير، فأخبر أن لهم الانتفاع بذلك في الآخرة التي هي دار التنعُّم فأما ما سوى ذلك من العُرُش والأواني فإنه لا بأس بذلك، وهو مباح في الدارين جميعا.
وأما ذكر الأكواب فيحتمل وجهين أيضا:
أحدهما: الترغيب على ما ذكرنا؛ لأنهم يتمنّون، ويرغبون فيها في الدنيا.
والثاني: يُخبر أن لا مُؤنة عليهم في حمل الأواني ورفعها عند الشرب والأكل، ولا يتولّون ذلك بأنفسهم، لكن الخدم هم الذين يتولّون سقيهم.
{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين} فذلك في الجنة ليس كنعيم الدنيا؛ لأن في الدنيا قد يشتهي شاربها، ولا تلذّ به العيون. ويحتمل أنه ذكر ذلك في الآخرة لما مُنعوا، وحُرموا في الدنيا مما لا يحلّ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون...
مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي 548 هـ :
... وقد جمع الله سبحانه بقوله (ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) ما لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا ما في الجنة من أنواع النعيم، لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا أمراً سائقاً إلى حالهم سابقاً لمن كان واقفاً عنهم إلى وصالهم، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركاً لما جهل منه، ومنبهاً على ما غفل عنه، فقال عائداً إلى الغيبة ترغيباً في التقوى: {يطاف عليهم} أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكاً.
{بصحاف} جمع صحفة وهي القصعة {من ذهب} فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم.
ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل، جرى على ذلك المعهود، فعبر بجمع القلة في قوله: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز، وإيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى أو نحو ذلك.
ولما رغب فيها بهذه المغيبات، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال: {وفيها} أي الجنة.
ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى: {ما تشتهيه الأنفس} من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها؛ جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم، خصها فقال:
{وتلذ الأعين} من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم تعالى، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام، قال عائداً إلى الخطاب؛ لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم الموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة: {وأنتم فيها خالدون} لبقائها وبقاء كل ما فيها، فلا كلفة عليكم أصلاً من خوف من زوال ولا حزن من فوات.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ما تشتهيه الأنفس} كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو...
ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف {وتلَذّ الأعين} على {ما تشتهيه الأنفس} عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عمومٌ وخصوص، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماعِ الأصوات الحسنة والموسيقى. وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيتِه أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في صور جميلة إكمالاً للنعمة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تقول في بيان النعمة الثالثة: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) فهم يُضافون ويخدمون بأفضل الأواني، وألذّ الأطعمة، في منتهى الهدوء والاطمئنان والصفاء.
«الصحاف» جمع صحفة، وهي في الأصل من مادة صحف، أي التوسع، وتعني هنا الأواني الكبيرة الواسعة والأكواب.
ومع أنّ الكلام في الآية عن الصحاف الذهبية، دون طعامهم وشرابهم، إلاّ أن من البديهي أنّ الذين يخدمونهم لا يطوفون عليهم بصحاف خالية مطلقاً.
وتشير في الرابعة والخامسة إلى نعمتين أُخريين جمعت فيهما كلّ نعم العالم المادية والمعنوية، فتقول: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين)، وعلى قول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان: لو أنّ جميع الخلائق قد اجتمعت لوصف أنواع نعم الجنّة، فسوف لا يقدرون أن يضيفوا شيئاً على ما جاء في هذه الجملة أبداً.
وأي تعبير أجمل من هذا التعبير وأجمع منه؟ فهو تعبير بسعة عالم الوجود، وبسعة ما يخطر في أذهاننا اليوم وما لا يخطر، تعبير ليس فوقه تعبير.
والطريف أن مسألة شهية النفس قد بيّنت منفصلة عن لذة العين، وهذا الفصل عميق المعنى: فهل هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام، من جهة أن للذّة النظر أهمية خاصّة تفوق اللذات الأُخرى؟ أم هو من جهة أن جملة: (ما تشتهيه الأنفس) تبيّن لذات الذوق والشم والسمع واللمس، أمّا جملة (تلذ الأعين) فهي تبيان للذة العين والنظر.
ويعتقد البعض أنّ جملة: (ما تشتهيه الأنفس) إشارة إلى كلّ اللذات الجسمية، في حين أن جملة (تلذ الأعين) مبينة للذات الروحية، وأي لذة في الجنة أسمى من أن ينظر الإِنسان بعين القلب إلى جمال الله الذي لا يشبهه جمال، فإنّ لحظة من تلك اللحظات تفوق كل نعم الجنة المادية.