وقوله - سبحانه - : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ . . . } تأكيد لما كان عليه أولئك المنافقون من جبن خالع .
والملجأ : اسم للمكان الذي يلجأ إليه الخائف ليحتمى به سواء أكان حصنا أو قلعة أو غيرهما .
والمغارات : جمع مغارة وهى المكان المنخفض في الأرض أو في الجبل . قال بعضهم : والغور - يفتح الغين - من كل شئ قعره . يقال : غار الرجل غورا إذا أتى الغور هو المنخفض من الأرض .
والمدخل - بتشديد الدال اسم للموضع الذي يدخلون فيه ، بصعوبة ومشقة لضيقه ، كالنفق في الأرض .
وقوله : { يَجْمَحُونَ } أى : يسرعون أشد الإِسراع مأخوذ من الجموح وهو أن يغلب الفرس صاحبه في سيره وجريه . يقال : جمع الفرس براكبه جموحا ، إذا استعصى عليه حتى غلبه .
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين لو يجدون حصنا يلتجئون إليه أو مغارات يستخفون فيها . أو سردابا في الأرض ينجحرون فيه ، لقبلوا نحوه مسرعين أشد الإِسراع دون أن يردهم شئ ، كالفرس الجموح الذي عجز صاحبه عن منعه من النفور والعَدْو .
فالآية الكريمة تصوير معجز لما كان عليه أولئك المنافقون من خوف شديد من المؤمنين ، ومن بغض دفين لهم ، حتى إنهم لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة - التي هي منفور منها - لأسرعوا نحوها إسراعا شديداً .
إنهم جبناء . والتعبير يرسم لهذا الجبن مشهداً ويجسمه في حركة . حركة النفس والقلب ، يبرزها في حركة جسد وعيان :
( لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون ) . .
فهم متطلعون أبداً إلى مخبأ يحتمون به ، ويأمنون فيه . حصناً أو مغارة أو نفقاً . إنهم مذعورون مطاردون يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي . ومن هنا :
( يحلفون باللّه إنهم لمنكم ) . .
بكل أدوات التوكيد ، ليداروا ما في نفوسهم ، وليتقوا انكشاف طويتهم ، وليأمنوا على ذواتهم . . وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء . لا يرسمها إلا هذا الاسلوب القرآني العجيب . الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق
{ لو يجدون ملجأ } حصنا يلجؤون إليه { أو مغارات } غيرانا . { أو مُدخلاً } نفقا ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب { مدخلا } من مدخل . وقرئ { مدخلا } أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم و " متدخلا " و " مندخلا " من تدخل واندخل { لولّوا إليه } لأقبلوا نحوه . { وهم يجمحون } يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح . وقرئ " يجمزون " ومنه الجمازة .
«الملجأ » من لجأ يلجأ إذا أوى واعتصم ، وقرأ جمهور الناس «أو مَغارات » بفتح الميم ، وقرأ سعيد بن عبد الرحمن بن عوف «أو مُغارات » بضم الميم وهي الغيران في أعراض الجبال ففتح الميم من غار الشيء إذا دخل كما تقول غارت العين إذا دخلت في الحجاج{[5707]} ، وضم الميم من أغار الشيء غيره إذا أدخله ، فهذا وجه من اشتقاق اللفظة ، وقيل إن العرب تقول : غار الرجل وأغار بمعنى واحد أي دخل ، قال الزجّاج : إذا دخل الغور فيحتمل أن تكون اللفظة أيضاً من هذا .
قال القاضي أبو محمد : ويصح في قراءة ضم الميم أن تكون من قولهم حبل مُغار أي مفتول ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبروم ، فيجيء التأويل على هذا : لو يجدون عصرة{[5708]} أو أموراً مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلاً لولوا إليه ، وقرأ جمهور الناس «أو مُدخلاً » أصله مفتعل وهو بناء تأكيد ومبالغة ومعناه السرب والنفق{[5709]} في الأرض ، وبما ذكرناه في الملجأ والمغارات ، «والمُدخل » فسر ابن عباس رضي الله عنه ، وقال الزجّاج «المُدخل » معناه قوماً يدخلونهم في جملتهم وقرأ مسلمة بن محارب والحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «أو مَدخلاً » فهذا من دخل وقرأ قتادة وعيسى بن عمر والأعمش «أو مدّخّلاً » بتشديدهما{[5710]} وقرأ أبي بن كعب «مندخلاً » قال أبو الفتح هذا كقول الشاعر [ الكميت ] : [ البسيط ]
ولا يدي في حميت السمن تندخل{[5711]}
قال القاضي أبو محمد : وقال أبو حاتم : قراءة أبي بن كعب «متدخلاً » بتاء مفتوحة ، وروي عن الأعمش وعيسى «مُدخلاً » بضم الميم فهو من أدخل ، وقرأ الناس { لولوا } وقرأ جد أبي عبيدة بن قرمل{[5712]} «لوالوا » من الموالاة ، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال : أظن لوالوا بمعنى للجؤوا{[5713]} ، وقرأ جمهور الناس ، «يجمحون » معناه يسرعون مصممين غير منثنين ، ومنه قول مهلهل : [ البسيط ]
لقد جمحت جماحاً في دمائهم*** حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا{[5714]}
وقرأ أنس بن مالك «يجمزون » ومعناه يهربون ، ومنه قولهم في حديث الرجم : فلما أذلقته الحجارة جمز{[5715]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.