ثم بين - سبحانه - بعد ذلك موسى - عليه السلام - قد امتثل أمر ربه فقال : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ . . . }
و " إذ " ظرف لما مضى من الزمان ، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر .
والمراد بقوله : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } : تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنن التى امتن الله بها عليكم ، وقوموا بحقوقها ، وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم . فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها .
" آل فرعون " حاشيته وخاصته من قومه . وفرعون : لقب ملك مصر فى ذلك الوقت ، كما يقال لملك الروم قيصر . . .
ويسومونكم من السوم وهو مطلق الذهاب أو الذهاب فى ابتغاء الشئ ، يقال : سامت الإِبل فهى سائمة . أى : ذهبت فى المرعى ، وسام السلعة : إذا طلبها وابتغاها .
وسامه خسفا ، إذا أذله واحتقره وكلفه فوق طاقته .
و { سواء العذاب } أشده . والسوء - بالضم - ، كل ما يدخل الحزن والغم على نفس الإِنسان ، وهو فى الأصل مصدر ، ويؤنث بالألف فيقال السوأى .
وقوله { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } من الاستحياء بمعنى الاستبقاء ، يقال : استحيا فلان فلانا أى : استبقاه وأصله طلب له الحياة والبقاء .
والمعنى : واذكر - أيها الرسول الكريم - أو أيها المخاطبوقت أن قال موسى - عليه السلام - لقومه على سبيل الإِرشاد والتوجيه إلى الخير : يا قوم { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } أى : داوموا على شكر الله ، فقد أسبغ عليكم نعما كثيرة من أبرزها أنه - سبحانه - أنجاكم من آل فرعون الذين كانوا يصبون عليكم أشد العذاب وأفظعه ، وكانوا يذبحون أبناءكم الصغار ، ويستبقون نساءكم . .
وجعل - سبحانه - النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه الآمر بتعذيب بنى إسرائيل للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا فى إذاقتهم سوء العذاب .
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل ، لأن هذا الإِبقاء عليهم كان المقصود منه الاعتداء عليهن ، واستعمالهم فى الخدمة بالاسترقاق ، فبقاؤهن بعد فقد الذكور بقاء ذليل ، وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة .
قال الآلوسى : قوله : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } أى : ويبقونهن فى الحياة مع الذل ، ولذلك عد من جملة البلاء ، أو لأن إبقاؤهن دون البنين رزية فى ذاته كما قيل :
ومن أعظم الرزء فيما أرى . . . بقاء البنات وموت البنينا
وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء هنا : الأطفال الصغار ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث إن فرعون وآله ، كانوا يستعملونهم فى الأعمال الشاقة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال ، لما قامت أم موسى بإلقائه فى البحر وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح .
وقال - سبحانه - هنا { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } لأن المقصود هنا تعداد المحن التى حلت ببنى إسرائيل ، فكان المراد بجملة { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } نوعا منه ، وكان المراد بجملة { وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } نوعا آخر منه ، لذا وجب العطف ، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى ، وإنما هى تمثل نوعا آخر من العذاب الذى حل ببنى إسرائيل .
بخلاف قوله - تعالى - فى سورة البقرة { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } بدون واو العطف ، لأن الجملة الثانية بيان وتفسير للجملة الأولى ، فيكون المراد من سوء العذاب فى سورة البقرة تذبيح الأبناء واستحياء النساء .
واسم الإشارة فى قوله { وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } يعود إلى المذكور من النعم والنقم ، والبلاء : الامتحان والاختبار ، ويكون فى الخير والشر . قال - تعالى - { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } أى : وفى ذلكم العذاب وفى النجاة منه امتحان عظيم لكم من ربكم بالسراء لتشكروا وبالضراء لتصبروا ، ولتقلعوا عن السيئات التى تؤدى بكم إلى الشفاء والهوان .
وراح موسى يؤدي رسالته ، ويذكر قومه :
( وإذ قال موسى لقومه : اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) . .
إنه يذكرهم بنعمة الله عليهم . نعمة النجاة من سوء العذاب الذي كانوا يلقونه من آل فرعون ، يسامونه سوما ، أي يوالون به ويتابعون ، فلا يفتر عنهم ولا ينقطع . ومن ألوانه البارزة تذبيح الذكور من الأولاد واستحياء الإناث ، منعا لتكاثر القوة المانعة فيهم واستبقاء لضعفهم وذلهم . فإنجاء الله لهم من هذه الحال نعمة تذكر . وتذكر لتشكر .
( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) . .
بلاء بالعذاب أولا ، لامتحان الصبر والتماسك والمقاومة والعزم على الخلاص والعمل له . فليس الصبر هو احتمال الذل والعذاب وكفى . ولكن الصبر هو احتمال العذاب بلا تضعضع ولا هزيمة روحية ، واستمرار العزم على الخلاص ، والاستعداد للوقوف في وجه الظلم والطغيان . وإلا فما فهو صبر مشكور ذلك الاستسلام للذل والهوان . . وبلاء بالنجاة ثانيا لامتحان الشكر ، والاعتراف بنعمة الله ، والاستقامة على الهدى في مقابل النجاة .
يقول تعالى مخبرا عن موسى ، حين ذَكَّر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم ، إذ أنجاهم من آل فرعون ، وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال ، حين{[15750]} كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم ، ويتركون إناثهم فأنقذ الله بني إسرائيل من ذلك ، وهذه نعمة عظيمة ؛ ولهذا قال : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي : نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك ، أنتم عاجزون عن القيام بشكرها .
وقيل : وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل { بلاء } أي : اختبار عظيم . ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا ، والله أعلم ، كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] .
عطف على جملة { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } باعتبار غرض الجملتين ، وهو التنظير بسنن ما جاء به الرسل السابقون من إرشاد الأمم وتذكيرها ، كما أنزل القرآن لذلك .
{ وإذ } ظرف للماضي متعلّق بفعل تقديره : اذكر ، دل عليه السياق الذي هو ذكر شواهد التاريخ بأحوال الرسل عليهم السلام مع أممهم . والمعنى : واذْكر قول موسى لقومه الخ .
وهذا مما قاله موسى لقومه بعد أن أنجاهم الله من استعباد القبط وإهانتهم ، فهو من تفاصيل ما فسّر به إرسال موسى عليه السلام وهو من التذكير بأيام الله الذي أمر الله موسى عليه السلام أن يذكّره قومه .
و { إذ أنجاكم } ظرف للنعمة بمعنى الإنام ، أي الإنعام الحاصل في وقت إنجائه إياكم من آل فرعون . وقد تقدم تفسير نظيرها في قوله تعالى : { وإذ أنجيناكم من آل فرعون } في سورة البقرة ( 49 ) ، وكذا في سورة الأعراف يقتلون . سوى أن هذه الآية عُطفت فيها جملة ويذبحون } على جملة { يسومونكم } وفي آية البقرة والأعراف جعلت جملة { يذبحون } وجملة { يقتلون } بدون عطف على أنها بدل اشتمال من جملة { يسومونكم سوء العذاب } . فكان مضمون جملة { وبذبحون } هنا مقصوداً بالعدّ كأنه صنف آخر غير سوء العذاب اهتماماً بشأنه ، فعطفه من عطف الخاص على العامّ . وعلى كلا النظمين قد حصل الاهتمام بهذا العذاب المخصوص بالذكر ، فالقرآنُ حكى مراد كلام موسى عليه السلام من ذكر العذاب الأعم وذكر الأخص للاهتمام به ، وهو حاصل على كلا النظمين . وإنما حكاه القرآن في كل موضع بطريقة تفنّناً في إعادة القصة بحصول اختلاف في صورة النظم مع الحفاظ على المعنى المحكي ، وهو ذكر سوء العذاب مجملاً ، وذكر أفظع أنواعه مبيّناً .
وأما عطف جملة { ويستحيون نساءكم } في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب ، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء ، إذ يُعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فصار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن . ولذلك سمي جميع ذلك بلاء .
وأصل البلاء : الاختبار . والبلاء هنا المصيبة بالشرّ ، سمي باسم الاختبار لأنه اختبار لِمقدار الصبر ، فالبلاء مستعمل في شدة المكروه من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على طريقة المجاز المرسل . وقد شاع إطلاق هذا بصيغة اسم المصدر بحيث يكاد لا يطلق إلاّ على المكروه . وما ورد منه مستعملاً في الخير فإنما ورد بصيغة الفعل كقوله : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ سورة الأنبياء : 35 ] ، وقوله : { ونبلو أخباركم } [ سورة محمد : 31 ] . وتقدم في نظيرها من سورة البقرة .
وجعل هذا الضر الذي لحقهم وارداً من جانب الله لأن تخلّيه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهم السلام واتّبَاهِهم دين القبط وعبادة آلهتهم .
واختيار وصف الربّ هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله : { وإن عدتم عدنا } [ سورة الإسراء : 8 ] .
وهذه الآية تضمنت ما في فقرة ( 17 ) من الإصحاح } ( 12 ) . وفقرة ( 3 ) من « الإصحاح » ( 13 ) من « سفر الخروج » . وما في فقرة ( 13 ) من الإصحاح ( 26 ) من « سفر اللاّويين » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قال موسى لقومه}، بني إسرائيل: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم}، يعني أنقذكم {من ءال فرعون}، يعني أهل مصر، {يسومونكم}، يعني يعذبونكم، {سوء} يعني شدة، {العذاب}، ثم بين العذاب، فقال: {ويذبحون أبناءكم}، في حجور أمهاتهم، {ويستحيون نساءكم}، يعني قتل البنين وترك البنات... {وفي ذلكم}، يعني فيما أخبركم من قتل الأبناء وترك البنات، {بلاء}، يعني نقمة، {من ربكم عظيم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إذ قال موسى بن عمران لقومه من بني إسرائيل:"اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ" التي أنعم بها عليكم "إذْ أنجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ "يقول: حين أنجاكم من أهل دين فرعون وطاعته. "يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ": أي يذيقونكم شديد العذاب. "ويُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ" وأدخلت الواو في هذا الموضع لأنه أريد بقوله: "وَيُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ" الخبر عن أنّ آل فرعون كانوا يعذّبون بني إسرائيل بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح، وأما في موضع آخر من القرآن، فإنه جاء بغير الواو: "يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَابِ يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ" في موضع وفي موضع: "يُقَتّلُونَ أبْناءَكُمْ"، ولم تدخل الواو في المواضع التي لم تدخل فيها لأنه أريد بقوله: "يُذَبّحُونَ" وبقوله: "يُقَتلُونَ" تبيينه صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم، وكذلك العمل في كل جملة أريد تفصيلها فبغير الواو تفصيلها، وإذا أريد العطف عليها بغيرها وغير تفصيلها فالواو...
وقوله: "وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ" يقول: ويبقون نساءكم فيتركون قتلهنّ وذلك استحياؤهم كان إياهنّ...
"وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ" يقول تعالى: وفيما يصنع بكم آل فرعون من أنواع العذاب بلاء لكم من ربكم عظيم: أي ابتلاء واختبار لكم من ربكم عظيم. وقد يكون البلاء في هذا الموضع نعماء، وقد يكون معناه: من البلاء الذي قد يصيب الناس في الشدائد وغيرها.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: نعمة من ربكم، قاله ابن عباس والحسن. الثاني: شدة البلية، ذكره ابن عيسى.
الثالث: اختبار وامتحان، قاله ابن كامل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تَذَكُّرُ ما سَلَفَ من النِّعَم يوجِبُ تجديد ما سَبقَ من المحبة، وفي الخبر:"جُبِلَتْ القلوبُ على حُبِّ مَنْ أحسن إليها"؛ فالحقُّ أَمَرَ موسى عليه السلام بتذكير قومه ما سبق إليهم من فنون إنعامه، ولطائف إكرامه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر ما أمر به موسى عليه السلام، وكان قد تقدم أمره الشريف إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاقتداء بالأنبياء الذين هو من رؤوسهم وأولي عزمهم، كان كأنه قيل: فبين أنت للناس ما نزل إليهم وذكرهم بأيام الله اقتداء بأخيك موسى عليه السلام {و} اذكر لهم خبره فإن أيامه من أعظم أيام الله: أشدها محنة وأجلها منحة {إذ قال موسى} امتثالاً لما أمرناه به {لقومه} مذكراً لهم بأيام الله معهم ثم أيامه مع غيرهم...
{يسومونكم} أي يكلفونكم ويولونكم على سبيل الاستهانة والقهر {سوء العذاب} بالاستعباد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بلاء بالعذاب أولا، لامتحان الصبر والتماسك والمقاومة والعزم على الخلاص والعمل له. فليس الصبر هو احتمال الذل والعذاب وكفى. ولكن الصبر هو احتمال العذاب بلا تضعضع ولا هزيمة روحية، واستمرار العزم على الخلاص، والاستعداد للوقوف في وجه الظلم والطغيان. وإلا فما فهو صبر مشكور ذلك الاستسلام للذل والهوان.. وبلاء بالنجاة ثانيا لامتحان الشكر، والاعتراف بنعمة الله، والاستقامة على الهدى في مقابل النجاة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أما عطف جملة {ويستحيون نساءكم} في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء، إذ يُعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فصار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن.. وجعل هذا الضر الذي لحقهم وارداً من جانب الله لأن تخلّيه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهم السلام واتّبَاهِهم دين القبط وعبادة آلهتهم. واختيار وصف الربّ هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله: {وإن عدتم عدنا} [سورة الإسراء: 8]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يقول لهم رسول الله الذي أنقذهم على يديه: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون}، أي أصحاب فرعون ونصرائه ومعاونيه على الشر، ونرى أن فرعون في أكثر الآيات المثبتة لظلمه القاسي الغشيم لا يذكر فرعون وحده، إنما يذكر ملؤه أو آله، أو غير ذلك مما يدل على المؤازرين له، وهذا ينبئ بمعنى أن سنة الله تعالى في خلقه أن الطغاة لا يطغون بذات أنفسهم، ولكن بمؤازرة من الأشياع والأتباع، ولو كانوا مرشدين ما كان منهم ذلك الظلم الغاشم فهم آثمون معهم...
وعبر عن قتل الأبناء هنا بالذبح للإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك، وهم آمنون سالمون غير ثائرين ولا ناقمين، فهم في غير اندفاعة ثورة، ولكن في أمن ودعة، يأتون إلى الطفل من حجر أمه أو بين لداته ويذبحونه ذبحا، وحسبك أن تعلم أن أم موسى رضيت – بإلهام من الله – أن تلقيه في اليم مع رجاء الله تعالى، عن أن تراه يذبح بين يديها...
وقد ذبّح فرعون أبناءهم الذكور، ولم يُذبّح الإناث لتصبح النساء بلا عائل ويستبيحهنّ، وفي هذا نِكَاية شديدة...
وهكذا نرى مظهرية الخير التي منّ الله بها عليهم، وهي الإنجاء من ذبح الأبناء واستباحة النساء، وكان ذلك نوعا من مظهرية الشر. وهذا ابتلاء صعب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
يريد تذكيرهم بأيام الله السالفة التي أهلك فيها فرعون وقومه، وأنقذهم فيها، بطريقةٍ معجزةٍ مثيرةٍ، لا يملك القدرة عليها إلا الله، {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وظلمهم وبغيهم {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} بمختلف الوسائل التي يملكونها، والأوضاع التي يفرضونها {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} لئلا ينشأ جيلٌ جديدٌ، يملك أمره، ويستعد للوقوف بقوّة أمام الطغيان والاستعباد، من مواقع الشعور بالعزّة وإرادة الحرية، ما يجعل من وسائل الإبادة الشاملة، الحلّ للهواجس المرعبة التي تطوف بأذهان الطغاة والمستكبرين الذين لا يستطيعون مواجهة شعوبهم بمنطق العقل والعلم والإقناع، فيلجؤون إلى منطق القهر والقتل والإذلال...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير الآية الأُخرى إلى أحد هذه الأيّام التي كانت ساطعة ومثمرة في تاريخ بني إسرائيل، وذكرها تذكرةً للمسلمين... أي يوم أكثر بركة من ذلك اليوم حيث أزال الله عنكم فيه شرّ المتكبّرين والمستعمرين، الذين كانوا يرتكبون أفظع الجرائم بحقّكم، وأي جريمة أعظم من ذبح أبنائكم كالحيوانات (انتبه إلى أنّ القرآن عبّر بالذبح لا بالقتل) وأهمّ من ذلك فإنّ نوامسكم كانت خدماً في أيدي الطامعين. وليس هذا المورد خاصّ ببني إسرائيل، بل في جميع الاُمم والأقوام. فإنّ يوم الوصول إلى الاستقلال والحرية وقطع أيدي الطواغيت يوم من أيّام الله الذي يجب أن نتذكّره دوماً حتّى لا نعود إلى ما كنّا عليه في الأيّام الماضية... معنى جملة يسومونكم سوء العذاب: إنّ أُولئك كانوا يفرضون عليكم أسوأ الأعمال وأكثرها تعذيباً، وهل أنّ تجميد وإبادة الكتلة الفعّالة في المجتمع واستخدام نسائهم وإذلالهنّ على يد فئة ظالمة وطاغية يعتبر أمراً هيّناً؟! ثمّ إنّ التعبير بفعل المضارع «يسومون» إشارة إلى أنّ هذا العمل كان مستمرّاً لمدّة طويلة...