ثم بين - سبحانه - الآثار السيئة التى تترتب على ضلالهم عن سواء السبيل فقال : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } .
والأرحام : جمع رحم والمراد بهم الأقارب ، الذين كان بعض المؤمنين يوالون المشركين من أجلهم .
أى : منكم - أيها المؤمنون - من أفشى أسراركم للكافرين ، خوفا على أقاربه أو أولاده الذين يعيشون فى مكة مع هؤلاء الكافرين ، والحق أنه لن تنفعكم قراباتكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين من أجلهم شيئا من النفع يوم القيامة ، لأنه فى هذا اليوم { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أى يفرق بينكم وبين أقاربكم وأولادكم يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } وكما قال - سبحانه - : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } وخص - سبحانه - الأولاد بالذكر مع أنهم من الأرحام ، لمزيد المحبة لهم - والحنو عليهم .
قال الشوكانى : وجملة { يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } مسأنفة لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد فى ذلك اليوم ، ومعنى { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } يفرق بينكم ، فيدخل أهل طاعته الجنة ، ويدخل أهل معصيته النار ، وقيل : المراد بالفصل بينهم ، أنه يفر كل منهم من الآخر من شدة الهول . . . قيل : ويجوز أن يتعلق { يَوْمَ القيامة } بما قبله ، أي : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة ، فيوقف عليه ، ويبتدأ بقوله { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } والأولى أن يتعلق بما بعده - أي : يفصل بينكم يوم القيامة ، فيوقف على { أَوْلاَدُكُمْ } ويبتدأ بيوم القيامة .
وقراءة الجمهور { يُفْصِلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد - على البناء للمجهول . وقرأ عاصم { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } بفتح الياء وكسر الصاد - على البناء للفاعل ، وقرأ حمزة والكسائى { يُفَصِّلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الكسر - بالبناء للفاعل - أيضا - .
وقرأ ابن عامر { يُفَصَّلُ بَيْنَكُمْ } - بضم الياء وفتح الفاء وتشديد الصاد مع الفتح - على البناء للمجهول .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : والله - تعالى - لا يخفى عليه شىء من أعمالكم ، بل هو مطلع عليها اطلاعا تاما وسيجازيكم يوم القيامة بما تستحقونه من ثواب أو عقاب .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من الآيات الكريمة ما يأتى :
1 - أن هذه الآيات أصل فى النهى عن موالاة الأعداء ومصافاتهم بأية صورة من الصور ، وشبيه بها قوله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } وقوله - سبحانه - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } .
2 - أن هذه الآيات الكريمة تتجلى فيها رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين ، حيث ناداهم بهذه الصفة مع وقوع بعضهم فى الخطأ الجسيم ، وهو إفشاء أسرار المؤمنين لأعدائهم قالوا : وفى هذا رد على المعتزلة الذين يقولون : إن المعصية تنافى الإيمان .
3 - أن هذه الآيات الكريمة فيها ما فيها من الأساليب الحكيمة فى الدعوة إلى الفضائل واجتناب الرذائل ، لأن الله - تعالى - عندما نهى المؤمنين عن موالاة أعدائه وأعدائهم ، ساق لهم الأسباب التى تحملهم على قطع كل صلة بهؤلاء الأعداء . بأن ذكر لهم أن هؤلاء الأعداء قد كفروا بالحق ، وحرصوا على إخراج الرسول والمؤمنين من ديارهم ، وأنهم إن يتمكنوا من المؤمنين ، فسينزلون بهم أشد ألوان الأذى .
وهكذا يجب أن يتعلم الدعاة إلى الله - تعالى - أن على رأس الوسائل التى توصلهم إلى النجاح فى دعوتهم ، أن يأتوا فى دعوتهم بالأسباب المقنعة لاعتناق الحق ، واجتناب الباطل .
4 - أن هذه الآيات الكريمة صريحة فى أن ما يتعلق بالدين والعقيدة ، يجب أن يقدم على ما يتعلق بالأرحام والأولاد ، لأن الأرحام والأولاد لن تنفع يوم القيامة ، وإنما الذى ينفع هو ما يتعلق بالاستجابة لما يفرضه الدين علينا من واجبات وتكاليف .
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة . ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة ؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جرا إلى المودة ؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة :
( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . يوم القيامة يفصل بينكم . والله بما تعملون بصير ) . .
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة . يزرع هنا وينتظر الحصاد هناك . فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة ؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : ( لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ) . . التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها ؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها - كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله - وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . ذلك أنه ( يوم القيامة يفصل بينكم ) . . لأن العروة التي تربطكم مقطوعة . وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله .
( والله بما تعملون بصير ) . . مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير
وقوله : { لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : قراباتكم لا تنفعكم عند الله{[28662]} إذا أراد الله بكم سوءًا ، ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخَسِر وضَلّ عمله ، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ، ولو كان قريبًا إلى نبي من الأنبياء .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس ، أن رجلا قال : يا رسول الله : أين أبي ؟ قال : " في النار " فلما قَفَّى دعاه فقال : " إن أبي وأباك في النار " .
ورواه مسلم وأبو داود ، من حديث حماد بن سلمة ، به {[28663]} .
ثم أخبر تعالى أن هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ليست بنافعة يوم القيامة فالعامل في { يوم } قوله :{ تنفعكم } ، وقال بعض النحاة في كتاب الزهراوي ، العامل فيه { يفصل } وهو مما بعده لا مما قبله ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والعامة : «يُفْصَل » بضم الياء وسكون الفاء وتخفيف الصاد مفتوحة ، وقرأ ابن عامر والأعرج وعيسى : «يُفَصَّل » بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد منصوبة ، واختلف على هاتين القراءتين في إعراب قوله : { بينكم } فقيل : نصب على الظرفية ، وقيل رفع على ما لم يسم فاعله إلا أن لفظه بقي منصوباً لأنه كذلك كثر استعماله ، وقرأ عاصم والحسن والأعمش : «يَفْصِل » بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة ، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب : «يُفَصِّل » بضم الياء وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة ، وإسناد الفعل في هاتين القراءتين إلى الله تعالى ، وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف : «نفَصِّلُ » بنون العظمة مرفوعة وفتح الفاء وشد الصاد المكسورة ، وقرأ بعض الناس : «نَفْصل » بنون العظمة مفتوحة وسكون الفاء ، وقرأ أبو حيوة ، بضم الياء وسكون الفاء وكسر الصاد خفيفة من : «أفصل » وفي قوله تعالى : { والله بما تعملون بصير } وعيد وتحذير .
تخلص من تبيين سوء عاقبة موالاة أعداء الدّين في الحياة الدنيا ، إلى بيان سوء عاقبة تلك الموالاة في الآخرة ، ومناسبة حسن التخلص قوله : { وودوا لو تكفرون } [ الممتحنة : 2 ] الدالّ على معنى : أن ودادَتهم كفركم من قبل أن يثقفوكم تنقلب إلى أن يكرهوكم على الكفر حين يثقفونكم ، فلا تنفعكم ذوو أرحامكم مثل الأمهات والإِخوة الأشقاء ، وللأمّ ، ولا أولادكم ، ولا تدفع عنكم عذاب الآخرة إن كانوا قد نفعوكم في الدنيا بصلة ذوي الأرحام ونصرة الأولاد .
فجملة { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } إلى آخرها مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن سؤال مفروض ممن يسمع جملة { ودُّوا لو تكفرون } [ الممتحنة : 2 ] ، أي من حق ذلك أن يُسأل عن آثارِه لخطر أمرها .
وإذا كان ناشئاً عن كلام جرى مجرى التعليل لجملة { فقد ضل سواء السبيل } [ الممتحنة : 1 ] ، فهو أيضاً مفيد تعليلاً ثانياً بحسب المعنى ، ولولا إرادة الاستئناف البياني لجاءت هذه الجملة معطوفة بالواو على التي قبلها ، وزاد ذلك حسناً أن ما صدر من حاطب ابن أبي بلتعة مما عُدّ عليه هو موالاةٌ للعدوّ ، وأنه اعتذر بأنه أراد أن يتخذ عند المشركين يداً يحمون بها قرابته ( أي أمه وإخوته ) . ولذلك ابتدىء في نفي النفع بذكر الأرحام لموافقة قصة حاطب لأن الأم ذات رحم والإِخوة أبناؤها هم إخوته من رحمه .
وأما عطف { ولا أولادكم } فتتميم لشمول النهي قوماً لهم أبناء في مكة .
والمراد بالأرحام : ذوو الأرحام على حذف مضاف لظهور القرينة .
و { يوم القيامة } ظرف يتنازعه كلٌ من فعل { لن تنفعكم } ، وفعل { يفصل بينكم } . إذ لا يلزم تقدم العاملين على المعمول المتنازع فيه إذا كان ظرفاً لأن الظروف تتقدم على عواملها وأن أبيت هذا التنازع فقل هو ظرف { تنفعكم } واجعل ل { يفصل بينكم } ظرفاً محذوفاً دلّ عليه المذكور .
والفصل هنا : التفريق ، وليس المراد به القضاءَ . والمعنى : يوم القيامة يفرق بينكم وبين ذوي أرحامكم وأولادكم فريق في الجنة وفريق في السعير ، قال تعالى : { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه } [ عبس : 34 37 ] .
والمعنى : أنهم لا ينفعونكم يوم القيامة فما لكم ترفضون حقّ الله مراعاةً لهم وهم يفرّون منكم يوم اشتداد الهول ، خَطَّأ رأيهم في موالاة الكفار أولاً بما يرجع إلى حال مَن والوه . ثم خَطّاه ثانياً بما يرجع إلى حال من استعملوا الموالاة لأجلهم ، وهو تقسيم حاصر إشارة إلى أن ما أقدم عليه حاطب مِن أي جهة نظر إليه يكون خطأ وباطلاً .
وقرأ الجمهور { يفصل بينكم } ببناء { يُفصَل } للمجهول مخففاً . وقرأه عاصم ويعقوب { يُفصِل } بالبناء الفاعل ، وفاعله ضمير عائد إلى الله لعلمه من المقام ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف { يفصِّل } مشدد الصاد مكسورة مبنياً للفاعل مبالغةً في الفصل ، والفاعل ضمير يعود إلى الله المعلوم من المقام .
وقرأه ابن عامر { يُفصَّل } بضم التحتية وتشديد الصاد مفتوحة مبنياً للنائب من فَصَّل المشدّد .