ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية التى فيها ما فيها من الثناء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه ، الذين رضى عنهم وأرضاهم فقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ . . . } .
وقوله - تعالى - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } مبتدأ وخبر ، أو { مُّحَمَّدٌ } خبر لمتبدأ محذوف ، و { رَّسُولُ الله } بدل أو عطف بيان من الاسم الشريف . أى : هذا الرسول الذى أرسله الله - تعالى - بالهدى ودين الحق ، هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . { والذين مَعَهُ } وهم أصحابه - وعلى رأسهم من شهد معه صلح الحديبية ، وبايعه تحت الشجرة - من صفاتهم أنهم { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } أى : غلاظ عليهم ، وأنهم { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } .
أى : أنهم مع إخوانهم المؤمنين يتوادون ويتعاطفون ويتعاونون على البر والتقوى . .
وقوله - تعالى - { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } فيه أسمى التكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث شهد له - سبحانه - بهذه الصفة ، وكفى بشهادته - عز وجل - شهادة ، وحيث قدم الحديث عنه بأنه أرسله بالهدى ودين الحق ، ثم أخر اسمه الشريف على سبيل التنويه بفضله ، والتشويق إلى اسمه .
وفى وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، مدح عظيم لهم ، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس ، فهم ليسوا أشداء مطلقا ، ولا رحماء مطلقا ، وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإِخوانكم فى العقيدة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم . . . } قال صاحب الكشاف : " وعن الحسن أنه قال : " بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه . .
وأسمى من هذا كله فى بيان تراحمهم قوله - تعالى - : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ . . } ثم وصفهم بوصف آخر فقال : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } .
أى : تراهم وتشاهدهم - أيها العاقل - راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله - تعالى - والظفر برضاه وثوابه . .
ثم وصفهم بوصف ثالث فقال : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود . . } أى : علامتهم وهو نور يجعله الله - تعالى - فى وجوههم يوم القيامة ، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباهم فى الدنيا ، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين .
فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإِشراق والصفاء . . يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله ، وليس المقصود أن هناك علامة معينة - كالنكتة التى تكون فى الوجه - كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان .
واختار - سبحانه - لفظ السجود ، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإِخلاص لله - تعالى - .
قال الآلوسى : " أخرج من مردويه بسند حسن عن أَبَىِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فى قوله - تعالى - : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } النور يوم القيامة " .
ثم قال الآلوسى : ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم فى الدنيا والآخرة - للآثار السابقة - لكنه لما كان فى الآخرة أظهر وأتم خصه النبى - صلى الله عليه وسلم - بالذكر . .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة } يعود إلى جميع أوصافهم الجليلة السابقة ، والمثل هو الصفة العجيبة والقصة ذات الشأن . أى : ذلك الذى ذكرناه عن هؤلاء المؤمنين الصادقين من صفات كريمة تجرى مجرى الأمثال ، صفتهم فى التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - .
ثم بين - سبحانه - صفتهم فى الإِنجيل فقال : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع . . } .
وقوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } معطوف على ما قبله وهو مثلهم فى التوراة ، والإِنجيل : هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه عيسى - عليه السلام - .
والشط : فروع الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرغ على شاطئيه . أى : جانبيه . وجمعه : أشطاء ، وشطوء ، يقال : شطأ الزرع وأشطأ ، إذا أخرج فروعه التى تتولد عن الأصل .
وقوله { فَآزَرَهُ } أى : فقوت تلك الفروع أصولها ، وآزرتها ، وجعلتها مكينة ثابتة فى الأرض . وأصله من شد الإِزار . تقول أزَّرْت فلانا ، إذا شددت إزاره عليه . وتقول آزرت البناء - بالمد والقصر - إذا قويت أساسه وقواعده .
ومنه قوله - تعالى - حكاية عن موسى - عليه السلام - : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي } .
وقوله : { فاستغلظ } أى : فصار الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا .
وقوله : { فاستوى على سُوقِهِ } أى : فاستقم وتكامل على سيقانه التى يعلو عليها .
وقوله : { يُعْجِبُ الزراع } أى : يعجب الخبراء بالزراعة لقوته وحسن هيئته .
والمعنى : أن صفة المؤمنين فى الإِنجيل ، أنهم كالزرع ، يظهر فى أول أمره رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد ، وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها .
فكذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، كانوا فى أول الأمر فى قلة وضعف ، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة ، حتى بلغوا فى ذلك .
وصدق الله إذا يقول : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قال صاحب الكشاف : " وهذا مثل ضربه الله - تعالى - لبدء أمر الإِسلام وترقيه فى الزيادة إلى أن قوى واستحكم . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - قام وحده ، ثم قواه الله - تعالى - بمن معه .
كما يقوى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها ما يتولد منها ، حتى يعجب الزراع .
وعلى هذا التفسير الذى سرنا عليه يكون وصفهم فى التوراة ، هو المعبر عنه بقوله - تعالى - : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ويكون وصفهم فى الإِنجيل هو المعبر عنه بقوله - سبحانه - : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } .
ولا شك أن هذه الأوصاف كانت موجودة فى الكتابين قبل أن يحرفا ويبدلا ، بل بعض هذه الأوصاف موجودة فى الكتابين ، حتى بعد تحريفهما .
فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة قال : " مكتوب فى الإِنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " .
ويرى بعض المفسرين أن المذكور فى التوراة والإِنجيل شئ واحد ، وهو الوصف المذكور إلى نهاية قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } وعلى هذا الرأى يكون الوقف تاما على هذه الجملة ، وما بعدها وهو قوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ . . . } كلام مستأنف .
قال القرطبى : " قوله - تعالى - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل . . } قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت : المعنى ذلك مثلهم فى التوراة وفى الإِنجيل أيضا ، كمثلهم فى القرآن ، فيكون الوقف على " الإِنجيل " .
وإن شئت قلت : تمام الكلام : ذلك مثلهم فى التوارة . ثم أبتدأ فقال : ومثلهم فى الإِنجيل .
وكذا قال ابن عباس وغيره : هما مثلان ، أحدهما فى التوارة ، والآخر فى الإِنجيل . . .
والذى نراه أن ما ذهب إليه ابن عباس من كونهما مثلين ، أحدهما مذكور فى التوراة والآخر فى الإِنجيل ، هو الرأى الراجح ، لأن ظاهر الآية يشهد له .
وفى هذه الصفات ما فيها من رسم صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المؤمنين الصادقين .
وقوله - تعالى - : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } تعليل لما يعرب عنه الكلام ، من إيجاده - تعالى - لهم على هذه الصفات الكريمة .
أى : جعلهم - سبحانه - كذلك بأن وفقهم لأن يكونوا أشداء على الكفار ، ولأن يكونوا رحماء فيما بينهم ، ولأن يكونوا مواظبين على أداء الطاعات . . لكى يغيظ بهم الكفار ، فيعيشوا وفى قلوبهم حسرة مما يرونه من صفات سامية للمؤمنين .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذا الوعد الجميل ، فقال : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
و " من " فى قوله { مِنْهُم } الراجح أنها للبيان والتفسير ، كما فى قوله - تعالى - { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان . . } أى : وعد الله - تعالى - بفضله وإحسانه ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات . وهم أهل بيعة الرضوان ، ومن كان على شاكلتهم فى قوة الإِيمان . . وعدهم جميعا مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما لا يعلم مقداره إلا هو - سبحانه - .
ويجوز أن تكون من هنا للتبعيض ، لكى يخرج من هيلاء الموعودين بالمغفرة والأجر العظيم أولئك الذين أظهروا الإِسلام وأخفوا الكفر ، وهم المنافقون الذين أبوا مبايغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبوا الخروج معه للجهاد ، والذين من صفاتهم أنهم كانوا إذا لقوا المؤمنين قالوا آمنا ،
{ وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية وأمثالها : وجوب احترام الصحابة وتوقيرهم ، والثناء عليهم ، لأن الله - تعالى - قد مدحهم ووعدهم بالمغفرة وبالأجر العظيم .
قال القرطبى : " روى أبو عروة الزبيرى من ولد الزبير أنه قال : كنا عند مالك بن أنس ، فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ مالك هذه الآية : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } . فقال مالك : من أصبح من الناس فى قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية . ثم قال الإِمام القرطبى - رحمه الله - : قلت : لقد أحسن مالك فى مقالته وأصاب فى تأويله ، فمن نقص واحد منهم أو طعن عليه فى روايته ، فقد رد على الله رب العالمين ، وأبطل شرائع المسلمين .
وبعد : فهذا تفسير لسورة " الفتح " تلك السورة التى بشرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بألوان من البشارات العالية ، وأدبتهم بأنواع من الآداب السامية ، وعرفتهم بأعدائهم من المنافقين والكافرين ، وحكت الكثير من مظاهر فضل الله - تعالى - ورحمته بعباده المؤمنين . .
والآن نجيء إلى ختام السورة . ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها ، وبلغها رضاه فردا فردا :
( محمد رسول الله . والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ذلك مثلهم في التوراة . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ، فآزره ، فاستغلظ ، فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ، ليغيظ بهم الكفار . وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . .
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع . صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة ، حالاتها الظاهرة والمضمرة . فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم )ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم : ( تراهم ركعا سجدا ) . . ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وهذه صفتهم فيها . . ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل . . ( كزرع أخرج شطأه )( فآزره ) . . ( فاستغلظ ) ( فاستوى على سوقه ) . ( يعجب الزراع ) . . : ( ليغيظ بهم الكفار ) . .
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين : ( محمد رسول الله ) . . ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع .
والمؤمنون لهم حالات شتى . ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ، ونقط الإرتكاز الأصيلة في هذه الحياة . وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة . . وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات ، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها . التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة .
إرادة التكريم واضحة ، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) . . أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا . رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين . فهي الشدة لله والرحمة لله . وهي الحمية للعقيدة ، والسماحة للعقيدة . فليس لهم في أنفسهم شيء ، ولا لأنفسهم فيهم شيء . وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم ، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها . يشتدون على أعدائهم فيها ، ويلينون لإخوتهم فيها . وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى ، ومن الانفعال لغير الله ، والوشيجة التي تربطهم بالله .
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم ، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة : ( تراهم ركعا سجدا ) . . والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم . ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة ، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا .
واللقطة الثالثة مثلها . ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) . . فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة . كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، هو فضل الله ورضوانه . ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به .
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم ، ونضحها على سماتهم : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) . . سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف . وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله : ( من أثر السجود ) . . فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة . واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها . فهو أثر هذا الخشوع . أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة . ويحل مكانها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا .
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة . إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر ؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة : ( ذلك مثلهم في التوراة ) . . وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى ، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها .
( ومثلهم في الإنجيل ) . . وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه ، أنهم ( كزرع أخرج شطأه ) . . فهو زرع نام قوي ، يخرج فرخه من قوته وخصوبته . ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده . ( فآزره ) . أو أن العود آزر فرخه فشده . ( فاستغلظ )الزرع وضخمت ساقه وامتلأت . ( فاستوى على سوقه )لا معوجا ومنحنيا . ولكن مستقيما قويا سويا . .
هذه صورته في ذاته . فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع ، العارفين بالنامي منه والذابل . المثمر منه والبائر . فهو وقع البهجة والإعجاب : ( يعجب الزراع ) . وفي قراءة يعجب( الزارع ) . . وهو رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج . . وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس . فهو وقع الغيظ والكمد : ( ليغيظ بهم الكفار ) . . وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله . أو زرعة رسوله ، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله !
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا ، فهو ثابت في صفحة القدر . ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض . ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون .
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة . . صحابة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . . فتثبت في صلب الوجود كله ، وتتجاوب بها أرجاؤه ، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود . وتبقى نموذجا للأجيال ، تحاول أن تحققها ، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات .
وفوق هذا التكريم كله ، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) . . وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم ، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة .
مغفرة وأجر عظيم . . وذلك التكريم وحده حسبهم . وذلك الرضى وحده أجر عظيم . ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود ، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ .
ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم . وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم . وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله ، وفي ميزان الله ، وفي كتاب الله . وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية ، وقد نزلت هذه السورة ، وقد قرئت عليهم . وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم . وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه .
وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه . . ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه . إلا من بعيد ? !
يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه {[26994]} ، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب ، فقال : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال : { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار ، رحيما برًا بالأخيار ، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر ، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر " {[26995]} ، وقال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه{[26996]} كلا الحديثين في الصحيح .
وقوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } : وصفهم بكثرة العمل وكثرة {[26997]} الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله ، عز وجل ، والاحتساب عند الله جزيل الثواب ، وهو الجنة{[26998]} المشتملة على فضل الله ، وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه ، تعالى ، عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وقوله : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني : السمت الحسن .
وقال مجاهد وغير واحد : يعني : الخشوع والتواضع .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافسي ، حدثنا حسين الجَعْفي ، عن زائدة{[26999]} ، عن منصور عن مجاهد : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال : الخشوع قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون .
وقال السدي : الصلاة تحسن وجوههم .
وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار .
وقد أسنده ابن ماجه في سننه ، عن إسماعيل بن محمد الطَّلْحي ، عن ثابت بن موسى ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله {[27000]} صلى الله عليه وسلم : " من كَثُرَتْ صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " والصحيح أنه موقوف{[27001]} .
وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس .
وقال أمير المؤمنين عثمان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه ، وفَلتَات لسانه .
والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس ، كما روي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله علانيته .
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ، عن سلمة بن كُهَيْل {[27002]} ، عن جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر " ، العرزمي متروك {[27003]} .
وقال {[27004]} الإمام أحمد : حدثنا حسن بن {[27005]} موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائنا ما{[27006]} كان " {[27007]} .
وقال {[27008]} الإمام أحمد [ أيضا ] {[27009]} : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا قابوس بن أبي ظَبْيَان : أن أباه حدثه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي ، عن زهير ، به{[27010]} .
فالصحابة [ رضي الله عنهم ]{[27011]} خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم .
وقال مالك ، رحمه الله : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون : " والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا " . وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة {[27012]} ؛ ولهذا قال هاهنا : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ ] } {[27013]} أي : فراخه ، { فَآزَرَهُ } أي : شده { فَاسْتَغْلَظَ } أي : شب وطال ، { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } أي : فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع ، { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } .
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله ، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك . والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة {[27014]} ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم .
ثم قال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ } من " هذه لبيان الجنس ، { مَغْفِرَةً } أي : لذنوبهم . { وَأَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابا جزيلا ورزقا كريما ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم {[27015]} ، وقد فعل .
قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " {[27016]} .
وقوله تعالى : { محمد رسول الله } قال جمهور الناس : هو ابتداء وخبر استوفي فيه تعظيم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : و { الذين معه } ابتداء وخبره : { أشداء } و { رحماء } خبر ثان . وقال قوم من المتأولين : { محمد } «ابتداء » و : { رسول الله } صفة له { والذين } عطف عليه . و : { أشداء } خبر وهؤلاء بوصفهم ، وفي القول الثاني اشترك الجميع في الشدة والرحمة .
قال القاضي أبو محمد : والأول عندي أرجح ، لأنه خبر مضاد لقول الكفار لا نكتب محمد رسول الله .
وقوله : { والذين معه } إشارة إلى جميع الصحابة عند الجمهور ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن الإشارة إلى من شهد الحديبية : ب { الذين معه } . و : { أشداء } جمع شديد ، أصله : أشدداء ، أدغم لاجتماع المثلين .
وقرأ الجمهور : «اشداءُ » «رحماءُ » بالرفع ، وروى قرة عن الحسن : «أشداءَ » رحماءَ «بنصبهما قال أبو حاتم : ذلك على الحال والخبر : { تراهم } . قال أبو الفتح : وإن شئت نصبت » أشداءَ «على المدح . وقوله : { تراهم ركعاً سجداً } ، أي ترى هاتين الحالتين كثيراً فيهم . و : { يبتغون } معناه يطلبون . وقرأ عمر وابن عبيد : » ورُضواناً «بضم الراء .
وقوله : { سيماهم } معناه : علامتهم . واختلف الناس في تعيين هذه السيما ، فقال مالك بن أنس : كانت جباههم متربة من كثرة السجود في التراب ، كان يبقى على المسح أثره ، وقاله عكرمة . وقال أبو العالية : يسجدون على التراب لا على الأثواب . وقال ابن عباس وخالد الحنفي وعطية : هو وعد بحالهم يوم القيامة من أن الله تعالى يجعل لهم نوراً { من أثر السجود } .
قال القاضي أبو محمد : كما يجعل غرة من أثر الوضوء . . . . الحديث{[10432]} ، ويؤيد هذا التأويل اتصال القول بقوله : { فضلاً من الله ورضواناً } كأنه قال : علامتهم في تحصيلهم الرضوان يوم القيامة : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود } . ويحتمل أن تكون السيما بدلاً من قوله : { فضلاً } . وقال ابن عباس : السمت الحسن : هو السيما ، وهو الخشوع خشوع يبدو على الوجه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه حالة مكثري الصلاة ، لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ، وتقل الضحك وترد النفس بحالة تخشع معها الأعضاء .
وقال الحسن بن أبي الحسن وشمر بن عطية{[10433]} : السيما : بياض وصفرة وبهيج يعتري الوجوه من السهر . وقال منصور : سألت مجاهداً : أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل ؟ فقال : لا ، وقد تكون مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة . وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس{[10434]} : السيما : حسن يعتري وجوه المصلين .
قال القاضي أبو محمد : وذلك لأن الله تعالى يجعل لها في عين الرأي حسناً تابعاً للإجلال الذي في نفسه ، ومتى أجل الإنسان أمراً حسناً عنده منظره ، ومن هذا الحديث الذي في الشهاب : ( من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ){[10435]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حديث غلط فيه ثابت بن موسى الزاهد ، سمع شريك بن عبد الله{[10436]} يقول : حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ثم نزع{[10437]} شريك لما رأى ثابت الزاهد فقال : يعنيه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، فظن ثابت أن هذا الكلام متركب على السند المذكور فحدث به عن شريك .
وقرأ الأعرج : «من إثْر » بسكون الثاء وكسر الهمزة . قال أبو حاتم هما بمعنى . وقرأ قتادة : «من آثار » ، جمعاً .
وقوله تعالى : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } الآية ، المثل هنا الوصف أو الصفة . وقال بعض المتأولين : التقدير الأمر { ذلك } وتم الكلام . ثم قال : { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : المعنى { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } وتم القول ، و : { كزرع } ابتداء تمثيل يختص بالقرآن . وقال الطبري وحكاه عن الضحاك المعنى : { ذلك } الوصف هو { مثلهم في التوراة } وتم القول ، ثم ابتدأ { ومثلهم في الإنجيل كزرع } . وقال آخرون : المثلان جميعاً هي في التوراة وهي في الإنجيل .
وقوله تعالى : { كزرع } ، هو على كل الأقوال وفي أي كتاب منزل : فرض مثل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وحده ، فكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء : وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، يقال : أشطأت الشجرة إذا خرجت غصونها ، وأشطأ الزرع : إذا أخرج شطأه{[10438]} .
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر : «شَطأ » بفتح الطاء والهمز دون مد ، وقرأ الباقون بسكون الطاء ، وقرأ عيسى بن عمر : «شطاه » بفتح الطاء دون همز{[10439]} ، وقرأ أبو جعفر : «شطه » رمى بالهمزة وفتح الطاء ، ورويت عن نافع وشيبة . وروي عن عيسى : «شطاءه » بالمد والهمز ، وقرأ الجحدري : «شطوه » بالواو . قال أبو الفتح هي لغة أو بدل من الهمزة ، ولا يكون الشطو إلا في البر والشعير ، وهذه كلها لغات . وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال : الزرع : النبي صلى الله عليه وسلم ، { فآزره } . علي بن أبي طالب رضي الله عنه { فاستغلظ } بأبي بكر ، { فاستوى على سوقه } : بعمر بن الخطاب .
وقوله تعالى : { فآزره } وزنه : أفعله ، أبو الحسن ورجحه أبو علي . وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : «فأزره » على وزن : فعله دون مد ، ولذلك كله معنيان : أحدهما ساواه طولاً ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]
بمحنية قد آزر الضال نبتها . . . بجر جيوش غانمين وخيب{[10440]}
أي هو موضع لم يزرع فكمل نبته حتى ساوى شجر الضال ، فالفاعل على هذا المعنى : الشطء والمعنى الثاني : إن آزره وأزره بمعنى : أعانه وقواه ، مأخوذ ذلك من الأزر وشده ، فيحتمل أن يكون الفاعل الشطء ، ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع ، لأن كل واحد منهما يقوي صاحبه وقال ابن مجاهد وغيره «آزره » وزنه : فاعله ، والأول أصوب أن وزنه : أفعله ، ويدلك على ذلك قول الشاعر : [ المنسرح ]
لا مال إلا العطاف تؤزره . . . أم ثلاثين وابنة الجبل{[10441]}
وقرأ ابن كثير : «على سؤقه » بالهمز ، وهي لغة ضعيفة ، يهمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر [ جرير ] :
لحب المؤقِدان إلي مؤسي {[10442]} وجعدة إذا أضاءهما الوقود . . .
و : { يعجب الزراع } جملة في موضع الحال ، وإذا أعجب { الزراع } ، فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه ، إذ قد أعجب العارفين بالعيوب ولو كان معيباً لم يعجبهم ، وهنا تم المثل .
وقوله تعالى : { ليغيظ بهم الكفار } ابتداء كلام قبله محذوف تقديره : جعلهم الله بهذه الصفة { ليغيظ بهم الكفار } ، و { الكفار } هنا المشركون . قال الحسن : من غيظ الكفار قول عمر بمكة : لا عبد الله سراً بعد اليوم .
وقوله تعالى : { منهم } هي لبيان الجنس وليست للتبعيض{[10443]} ، لأنه وعد مرجٍّ للجميع .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال تعالى للذين أنكروا أنه رسول الله: {محمد رسول الله والذين معه} من المؤمنين {أشداء} يعني غلظاء {على الكفار رحماء بينهم} يقول: متوادين بعضهم لبعض {تراهم ركعا سجدا} يقول: إذا رأيتهم تعرف أنهم أهل ركوع وسجود في الصلوات {يبتغون فضلا} يعني رزقا {من الله ورضوانا} يعني يطلبون رضي ربهم {سيماهم} يعني علامتهم {في وجوههم} الهدى والسمت الحسن {من أثر السجود} يعني من أثر الصلاة {ذلك مثلهم في التوراة} يقول: ذلك الذي ذكر من نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة. ثم ذكر نعتهم في الإنجيل، فقال: {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه} يعني الحلقة وهو النبت الواحد في أول ما يخرج {فآزره} يعني فأعانه أصحابه، يعني الوابلة التي تنبت حول الساق فآزره كما آزر الحلقة والوابلة بعضه بعضا، فأما شطأه، فهو محمد صلى الله عليه وسلم خرج وحده كما خرج النبت وحده، وأما الوابلة التي تنبت حول الشطأه، فاجتمعت فهم المؤمنون كانوا في قلة كما كان أول الزرع دقيقا، ثم زاد نبت الزرع فغلظ فآزره {فاستغلظ} كما آزر المؤمنون بعضهم بعضا حتى إذا استغلظوا واستووا على أمرهم كما استغلظ هذا الزرع. {فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} فكما يعجب الزراع حسن زرعه حين استوى قائما على سوقه، فكذلك يغيظ الكفار كثرة المؤمنين واجتماعهم. ثم قال: {وعد الله الذين آمنوا} يعني صدقوا {وعملوا الصالحات} من الأعمال {منهم مغفرة} لذنوبهم {وأجرا عظيما} يعني به الجنة...
القاضي عياض: قال مصعب الزبيري وابن نافع، دخل هارون- يعني الرشيد- المسجد فركع، ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه ثم أتى مجلس مالك، فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته. قال له مالك: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم قال لمالك: هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حق؟. قال: لا، ولا كرامة ولا مسرة. قال: من أين قلت ذلك؟ قال: قال الله: {ليغيظ بهم الكفار} فمن عابهم فهو كافر، ولا حق لكافر في الفيء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ "يقول تعالى ذكره: محمد رسول الله، وأتباعه من أصحابه الذين هم معه على دينه، "أشدّاء على الكفار"، غليظة عليهم قلوبهم، قليلة بهم رحمتهم، "رُحَماءُ بَيْنَهُمْ" يقول: رقيقة قلوب بعضهم لبعض، لينة أنفسهم لهم، هينة عليهم لهم...
"تَرَاهُمْ رُكّعا سُجّدا" يقول: تراهم ركعا أحيانا لله في صلاتهم سجدا أحيانا "يبتغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ" يقول: يلتمسون بركوعهم وسجودهم وشدّتهم على الكفار ورحمة بعضهم بعضا، فضلاً من الله، وذلك رحمته إياهم، بأن يتفضل عليهم، فيُدخلهم جنته "وَرِضْوَانا" يقول: وأن يرضى عنهم ربهم.
وقوله: "سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ أثَرِ السّجُودِ" يقول: علامتهم في وجوههم من أثر السجود في صلاتهم. ثم اختلف أهل التأويل في السيما الذي عناه الله في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة، يعرفون بها لما كان من سجودهم له في الدينا... عن عطية، في قوله: "سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ" قال: مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضا...
عن مقاتل بن حيان، قال: "سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ" قال: النور يوم القيامة...
وقال آخرون: بل ذلك سيما الإسلام وسَمْته وخشوعه، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك عليهم في الدنيا...
وقال آخرون: ذلك أثر يكون في وجوه المصلين، مثل أثر السّهَر، الذي يظهر في الوجه مثل الكَلَف والتهيج والصفرة، وما أشبه ذلك مما يظهره السهر والتعب في الوجه، ووجهوا التأويل في ذلك إلى أنه سيما في الدنيا...
وقال آخرون: ذلك آثار ترى في الوجه من ثَرَى الأرض، أو نَدَى الطّهّور...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود، ولم يخصّ ذلك على وقت دون وقت. وإذ كان ذلك كذلك، فذلك على كلّ الأوقات، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته، وآثار أداء فرائضه وتطوّعه، وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون به، وذلك الغرّة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود...
وقوله: "ذلكَ مَثَلَهُمْ فِي التّوْرَاةِ" يقول: هذه الصفة التي وصفت لكم من صفة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذين معه صفتهم في التوراة.
وقوله: "وَمَثَلُهُمْ في الإنجِيلِ كَزَرْع أخْرَجَ شَطْأَهُ" يقول: وصفتهم في إنجيل عيسى صفة زرع أخرج شطأه، وهو فراخه، يقال منه: قد أشطأ الزرع: إذا فرّخ فهو يشطئ إشطاء، وإنما مثلهم بالزرع المشطئ، لأنهم ابتدأوا في الدخول في الإسلام، وهم عدد قليلون، ثم جعلوا يتزايدون، ويدخل فيه الجماعة بعدهم، ثم الجماعة بعد الجماعة، حتى كثر عددهم، كما يحدث في أصل الزرع الفرخ منه، ثم الفرخ بعده حتى يكثر وينمى... عن الضحاك في قول الله: "مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ..." الآية، قال: هذا مثلهم في التوراة، ومثل آخر في الإنجيل "كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فآزَرَهُ..." الآية.
وقال آخرون: هذان المَثَلان في التوراة والإنجيل مثلهم...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: مثلهم في التوراة، غير مثَلهم في الإنجيل، وإن الخبر عن مَثلهم في التوراة متناهٍ عند قوله: "ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ" وذلك أن القول لو كان كما قال مجاهد من أن مثلهم في التوراة والإنجيل واحد، لكان التنزيل: ومثلهم في الإنجيل، وكزرع أخرج شطأه، فكان تمثيلهم بالزرع معطوفا على قوله: "سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ" حتى يكون ذلك خبرا عن أن ذلك مَثلهم في التوراة والإنجيل، وفي مجيء الكلام بغير واو في قوله: "كَزَرْعٍ" دليل بَيّن على صحة ما قُلنا، وأن قولهم "وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ" خبر مبتدأ عن صفتهم التي هي في الإنجيل دون ما في التوراة منها...
عن حُميد الطويل، قال: قرأ أنس بن مالك: "كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ" قال: تدرون ما شطأه؟ قال: نباته.
عن ابن عباس، قوله: "ذلكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأَهُ" قال: سنبله حين يتسلع نباته عن حباته...
قال ابن زيد، في قوله: "كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ" أولاده، ثم كثرت أولاده...
عن مجاهد، في قوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قال: ما يخرج بجنب الحقلة فيتمّ وينمى.
وقوله: "فآزرَهُ" يقول: فقوّاه: أي قوّى الزرعَ شطأه وأعانه، وهو من المؤازرة التي بمعنى المعاونة "فاسْتَغْلَظَ" يقول: فغلظ الزرع "فاسْتَوَى على سُوقِهِ" والسوق: جمع ساق، وساق الزرع والشجر: حاملته... وهو مَثل ضربه الله لمحمد صلى الله عليه وسلم يقول: بعث الله صلى الله عليه وسلم وحده، ثم اجتمع إليه ناس قليل يؤمنون به، ثم يكون القليل كثيرا، ويستغلظون، ويغيظ الله بهم الكفار...
وقوله: "عَلى سُوقِهِ" قال: أصوله...
قال ابن زيد، في قوله: فآزَرَهُ اجتمع ذلك فالتفّ قال: وكذلك المؤمنون خرجوا وهم قليل ضعفاء، فلم يزل الله يزيد فيهم، ويؤيدهم بالإسلام، كما أيّد هذا الزرع بأولاده، فآزره، فكان مثلاً للمؤمنين...
وقوله: "يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ" يقول تعالى ذكره: يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحُسن نباته، وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه "لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ" يقول: فكذلك مَثل محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واجتماع عددهم حتى كثروا ونموا، وغلظ أمرهم كهذا الزرع الذي وصف جلّ ثناؤه صفته، ثم قال: "لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارِ" فدلّ ذلك على متروك من الكلام، وهو أن الله تعالى فعل ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار...
وقوله: "وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وعَملُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأجْرا عَظِيما" يقول تعالى ذكره: وعد الله الذين صدّقوا الله ورسوله "وعَمِلُوا الصّالِحاتِ" يقول: وعملوا بما أمرهم الله به من فرائضه التي أوجبها عليهم.
وقوله: "مِنْهُمْ" يعني: من الشطء الذي أخرجه الزرع، وهم الداخلون فِي الإسلام بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته. والهاء والميم في قوله "مِنْهُمْ" عائدة على معنى الشطء لا على لفظه، ولذلك جمع فقيل: «منهم»، ولم يقل «منه». وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله: "وَالّذِين مَعَهُ أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُم رُكّعا سُجّدا".
وقوله "وَمَغْفِرَةً" يعني: عفوا عما مضى من ذنوبهم، وسيئ أعمالهم بحسنها. وقوله: "وأجْرا عَظيما" يعني: وثوابا جزيلاً، وذلك الجنة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تراهم رُكّعا سُجّدا} يحتمل وجهين:
أحدهما: وصف لهم بالمداومة في إقامة الصلوات بالجماعات، وأراد بالركوع والسجود الصلاة على طريق الكناية.
والثاني: عبارة عن الخضوع لربهم والتواضع للمؤمنين...
{ذلك مَثلُهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} يحتمل وجوها:
أحدها: أي شبّههم في التوراة والإنجيل بالآحاد والإفراد؛ فهُمُ المختارون من بين غيرهم الذين يعظّمونهم الأتباع والملوك، ويحلّونهم، فما بالكم لا تعظّمون أنتم هؤلاء، ولا تتّبعونهم كأولئك؟ والله أعلم.
والثاني: يحتمل {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل} أي ذلك نعتهم ووصفهم في التوراة والإنجيل، أي على ذلك نُعِتوا، ووُصفوا، في التوراة والإنجيل، وقد عرفتم ذلك، فهلاّ اتّبعتموهم إذا نُعتوا، ووُصفوا، في القرآن؟...
وقال الفراء: {شطئه} سُنبله؛ تُنبِت الحبة عشرا وتسعا وثمانيَ.
{فآزره} أي أعانه، وقوّاه {فاستغلظ} أي غلظ {فاستوى على سوقه} جمع ساق، ومنه يقال: قال كذا على سوقه، إنما يُراد به تناهى، وبلغ الغاية. يقول، والله أعلم: كما أن الزرع إذا قام على السوق فقد استحكم، فهذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أي خرج وحده، فأيّده بأصحابه، فقوي، واشتد، كما قوّى الطاقة من الزرع بما يُنبت منها حتى غلظ، وعظُمت، واستحكمت، والله أعلم...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
فهذه صفة من بادر إلى تصديقه والإيمان به، وآزره ونصره، ولصق به وصحبه، وليس كذلك جميع من رآه ولا جميع من آمن به. (الاستيعاب: 1/2)...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود} (29) 1001- {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وصفهم بالشدة، وإنما تصدر الشدة عن الغضب، ولو بطل الغضب لبطل الجهاد. (نفسه: 3/62)
وصف الله تعالى الصحابة فقال: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} إشارة إلى أن للشدة موضعها وللرحمة موضعها، فليس الكمال في الشدة بكل حال، ولا في الرحمة بكل حال. (الإحياء: 3/60)
من الشجاعة يصدر الإقدام والإحجام حيث تجب وكما يجب، وهو الخلق الحسن المحمود، وإياه أراد بقوله تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} فلا الشدة في كل مقام محمودة ولا الرحمة، بل المحمود ما يوافق معيار العقل والشرع. (ميزان العمل: 267 ومعراج القدس في مدارج معرفة النفس: 87)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى: {رحماء بينهم} قال: يدعو صالحهم لطالحهم وطالحهم لصالحهم، فإذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير وثبته عليه وانفعنا به، وإذا نظر الصالح قال: اللهم اهده وتب عليه واغفر له عثرته. (الإحياء: 2/211)
{رحماء بينهم} إشارة إلى الشفقة والإكرام. (نفسه: 2/191)
{سيماهم في وجوههم من أثر السجود} قيل: هو ما يلتصق بوجوههم من الأرض عند السجود. (نفسه: 1/177)
إذا كانت النفس متصفة بالأخلاق المحمودة منزهة عن الصفات المذمومة، مشتغلة بالله فارغة مما سواه، ظهرت ثمارها على الجثة، فأنابت وخضعت وحقت لها الطمأنينة، فسكنت وبانت عليها الأنوار، وتجللتها الهيبة، والوقار، وهو المراد بقوله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}. (مدخل السلوك إلى منازل الملوك: 44)...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
بلغ من تشدّدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم؛ وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
["سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ"] يَعْنِي عَلَامَتَهُمْ، وَهِيَ سِيمَا وَسِيميَا، وَفِي الْحَدِيثِ «قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ من الْأُمَمِ؛ تَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ من آثَارِ الْوُضُوءِ»...
{يبتغون فضلا من الله ورضوانا} لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم، وركوع المرائي وسجوده، فإنه لا يبتغي به ذلك. وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال الراكعون والساجدون {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} وقال الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلا، وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم، لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك، والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافا بالتقصير فقال: {يبتغون فضلا من الله} ولم يقل أجرا...
وهاهنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم {يبتغون فضلا من الله} وقال: لهم أجر ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجرا يعتد به، فقال لا أبتغي إلا فضلك، فإن عملي نزر لا يكون له أجر والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل وسماه أجرا إشارة إلى قبول عمله ووقوعه الموقع وعدم كونه عند الله نزرا لا يستحق عليه المؤمن أجرا، وقد علم بما ذكرنا مرارا أن قوله {وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات} لبيان ترتب المغفرة على الإيمان فإن كل مؤمن يغفر له...والأجر العظيم على العمل الصالح، والله أعلم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث. وهذا مردود، فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: "مغفرة وأجرا عظيما". وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مُسقط من مرتبتهم وفضلهم، إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}، وهذا مبتدأ وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}...وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفًا على الكفار، رحيما برًا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن...
{تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}: وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله، عز وجل، والاحتساب عند الله جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله، وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه، تعالى، عنهم وهو أكبر من الأول، كما قال: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]...
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} يعني: السمت الحسن... الخشوع والتواضع... فالصحابة [رضي الله عنهم] خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك، رحمه الله: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: " والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا". وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال هاهنا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}، ثُمَّ قَالَ: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ [فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ}: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ]} أي: فراخه، {فَآزَرَهُ} أي: شده {فَاسْتَغْلَظَ} أي: شب وطال، {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي: فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك -رحمه الله، في رواية عنه- بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
ثم قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} من " هذه لبيان الجنس، {مَغْفِرَةً} أي: لذنوبهم. {وَأَجْرًا عَظِيمًا} أي: ثوابا جزيلا ورزقا كريما، ووعد الله حق وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{محمد رسول الله} أي الملك الذي لا كفوء له، فهو الرسول الذي لا رسول يساويه لأنه رسول إلى جميع الخلق ممن أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدمه بالقوة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه...
ولما كانت الصلاة مما يدخله الرياء، بين إخلاصهم بقوله: {يبتغون} أي يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم {فضلاً} أي زيادة في الخير {من الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال والجمال الذي أعطاهم ملكة الغلظة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرقة على أوليائه بما أعطاهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره، ولا محسن سواه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود. {يَبْتَغُونَ} بتلك العبادة {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي: هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه. {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي: قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت [بالجلال] ظواهرهم. {ذَلِكَ} المذكور {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} أي: هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا. وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء. {فَاسْتَغْلَظَ} ذلك الزرع أي: قوي وغلظ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} جمع ساق، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن نجيء إلى ختام السورة. ختامها بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها، وبلغها رضاه فردا فردا:
(محمد رسول الله. والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود. ذلك مثلهم في التوراة. ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه، فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع، ليغيظ بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما)..
إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع. صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظاهرة والمضمرة. فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم: (تراهم ركعا سجدا).. ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا).. ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود).. (ذلك مثلهم في التوراة).. وهذه صفتهم فيها.. ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل.. (كزرع أخرج شطأه) (فآزره).. (فاستغلظ) (فاستوى على سوقه). (يعجب الزراع)..: (ليغيظ بهم الكفار)..
وتبدأ الآية بإثبات صفة محمد [صلى الله عليه وسلم] صفته التي أنكرها سهيل بن عمرو ومن وراءه من المشركين: (محمد رسول الله).. ثم ترتسم تلك الصورة الوضيئة بذلك الأسلوب البديع.
والمؤمنون لهم حالات شتى. ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم، ونقط الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة. وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة.. وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها. التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة.
إرادة التكريم واضحة، وهو يسجل لهم في اللقطة الأولى أنهم: (أشداء على الكفار رحماء بينهم).. أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعا. رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين. فهي الشدة لله والرحمة لله. وهي الحمية للعقيدة، والسماحة للعقيدة. فليس لهم في أنفسهم شيء، ولا لأنفسهم فيهم شيء. وهم يقيمون عواطفهم ومشاعرهم، كما يقيمون سلوكهم وروابطهم على أساس عقيدتهم وحدها. يشتدون على أعدائهم فيها، ويلينون لإخوتهم فيها. وقد تجردوا من الأنانية ومن الهوى، ومن الانفعال لغير الله، والوشيجة التي تربطهم بالله.
وإرادة التكريم واضحة وهو يختار من هيئاتهم وحالاتهم، هيئة الركوع والسجود وحالة العبادة: (تراهم ركعا سجدا).. والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم. ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة، وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم؛ فعبر عنها تعبيرا يثبتها كذلك في زمانهم، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا.
واللقطة الثالثة مثلها. ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم: (يبتغون فضلا من الله ورضوانا).. فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة. كل ما يشغل بالهم، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم، هو فضل الله ورضوانه. ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به.
واللقطة الرابعة تثبت أثر العبادة الظاهرة والتطلع المضمر في ملامحهم، ونضحها على سماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود).. سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية، ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف. وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: (من أثر السجود).. فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة. واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها. فهو أثر هذا الخشوع. أثره في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة. ويحل مكانها التواضع النبيل، والشفافية الصافية، والوضاءة الهادئة، والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا.
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة. إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر؛ ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة: (ذلك مثلهم في التوراة).. وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى، وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها.
(ومثلهم في الإنجيل).. وصفتهم في بشارته بمحمد ومن معه، أنهم (كزرع أخرج شطأه).. فهو زرع نام قوي، يخرج فرخه من قوته وخصوبته. ولكن هذا الفرخ لا يضعف العود بل يشده. (فآزره). أو أن العود آزر فرخه فشده. (فاستغلظ) الزرع وضخمت ساقه وامتلأت. (فاستوى على سوقه) لا معوجا ومنحنيا. ولكن مستقيما قويا سويا..
هذه صورته في ذاته. فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة في الزرع، العارفين بالنامي منه والذابل. المثمر منه والبائر. فهو وقع البهجة والإعجاب: (يعجب الزراع). وفي قراءة يعجب (الزارع).. وهو رسول الله [صلى الله عليه وسلم] صاحب هذا الزرع النامي القوي المخصب البهيج.. وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس. فهو وقع الغيظ والكمد: (ليغيظ بهم الكفار).. وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزرعة هي زرعة الله. أو زرعة رسوله، وأنهم ستار للقدرة وأداة لإغاظة أعداء الله!
وهذا المثل كذلك ليس مستحدثا، فهو ثابت في صفحة القدر. ومن ثم ورد ذكره قبل أن يجيء محمد ومن معه إلى هذه الأرض. ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون.
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة.. صحابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم].. فتثبت في صلب الوجود كله، وتتجاوب بها أرجاؤه، وهو يتسمع إليها من بارى ء الوجود. وتبقى نموذجا للأجيال، تحاول أن تحققها، لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات.
وفوق هذا التكريم كله، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما).. وهو وعد يجيء في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم، التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة.
مغفرة وأجر عظيم.. وذلك التكريم وحده حسبهم. وذلك الرضى وحده أجر عظيم. ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ.
ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم. وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم. وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله، وفي ميزان الله، وفي كتاب الله. وأنظر إليهم وهم عائدون من الحديبية، وقد نزلت هذه السورة، وقد قرئت عليهم. وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم. وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها هو في كيانه.
وأحاول أن أعيش معهم لحظات في هذا المهرجان العلوي الذي عاشوا فيه.. ولكن أنى لبشر لم يحضر هذا المهرجان أن يتذوقه. إلا من بعيد؟!
اللهم إلا من يكرمه الله إكرامهم: فيقرب له البعيد؟!
فاللهم إنك تعلم أنني أتطلع لهذا الزاد الفريد!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
محمد رسول الله، أي هو محمد رسول الله. وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم فتعتبر الجملةُ المحذوفُ مبتدؤها مستأنفةً استئنافاً بيانياً. وفيه وجوه أخر لا تخفى، والأحسن منها هذا...
والشدة على الكفار: هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان ....
... وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدّةِ والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية...
. وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعاً سجداً. وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس، وهي الصلوات مفروضُها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه. وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه...
{في التوراة} والتشبيه في قوله: {كزرع} خبره، وهو المثَل. وهذا هو الظاهر من سياق الآية...
وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة...
والضمير المرفوع في {آزره} للشطء، والضمير المنصوب للزرع، أي قوًى الشطء أصله...
وساق الزرع والشجرة: الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان. ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً وتقويه يوماً فيوماً حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه. وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل: أبي بكر وخديجة وعلي وبلال وعمّار، والشطْء: من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أصحاب الرسول أشدّاء رحماء {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ} من موقع أنهم أشدَّاء على الكفر بالتزامهم الإيمان ودفاعهم عنه، ووقوفهم ضد كل من يريد تأكيد قوة الكفر وإضعاف الإيمان.. وشدّتهم هنا ليست حالةً لاإنسانيةً، تمثل القسوة والتعصب والانغلاق، بل هي حالة إنسانيةً غرضها الانفتاح على الإنسان من مواقع الحق الذي يمثله الإيمان...
{رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} من خلال روحانية الإسلام الذي يشدّ جميع الناس إلى بعضهم البعض، ليكونوا كالجسد الواحد...
وهذا تصوير للمجتمع المؤمن الذي يتكامل ويتنامى ويقوّي بعضه بعضاً حتى يشكل قوّة كبيرة في العدد والعدّة {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} الذين تزعجهم الوحدة التي تشمل أفراد المجتمع الإسلامي والقوّة المتمثلة فيه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} لأن الإيمان والعمل الصالح هما الأساس الذي يرتكز عليه رضى الله عن عباده، وتنطلق منه المغفرة، ويُستحق عليه الجزاء الكبير في ثواب الله سبحانه...