ثم ذكر - سبحانه - صفات كريمة لهم فقال : { والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ } أى أطاعوه فى كل ما أمرهم به ، أو نهاهم عنه . .
{ وَأَقَامُواْ الصلاة } أى : حافظوا عليها ، وأدوها فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين .
{ وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أى : شأنهم أنهم إذا حدث بينهم أمر هام يحتاج إلى المراجعة والمناقشة ، تجمعوا وتشاوروا فيما هو أنفع وأصلح .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أى : يتشاورون فى الأمور .
والشورى مصدر شاورته - والتشاور : استخراج الرأى من الغير . .
قال الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم .
وقال ابن العربى : الشورى : ألفة للجماعة ومسبار للعقول ، وسبب إلى الصواب .
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن . . . برأى لبيب أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة . . . فإن الخوافى قوة للقوادم
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستشير أصحابه فى الأمور التى تتعلق بالحروب وما يشببها من الأمور الدنيوية ، ولم يكن يشاورهم فى الأحكام لأنها منزلة من عند الله - تعالى - .
فأما الصحابة فكانوا يتشاورون فى الأحكام ، ويستنطبونها من الكتاب والسنة ، فقد تشاوروا فى الخلافة بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفى ميراث الجد ، وفى حروب المرتدين .
وقوله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أى ومن صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين - أيضا - أنهم مما أعطيناهم من الرزق ، يتصدقون على غيرهم من المحتاجين .
فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم . أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول . وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها . عوائق من شهواتها ونزواتها . عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها . فأما حين تخلص من هذا كله فإنها تجد الطريق إلى ربها مفتوحاً وموصولا . وحينئذ تستجيب بلا عائق . تستجيب بكلياتها . ولا تقف أمام كل تكليف بعائق من هوى يمنعها . . وهذه هي الاستجابة في عمومها . . ثم أخذ يفصل بعض هذه الاستجابة :
وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى ، فهي التالية للقاعدة الأولى فيه . قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وهي صورة الاستجابة الأولى لله . وهي الصلة بين العبد وربه . وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعاً سجداً ، لا يرتفع رأس على رأس ، ولا تتقدم رجل على رجل !
ولعله من هذا الجانب أتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى - قبل أن يذكر الزكاة :
والتعبير يجعل أمرهم كله شورى ، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة . وهو كما قلنا نص مكي . كان قبل قيام الدولة الإسلامية . فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين . إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها ، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد .
والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية . والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية .
ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكراً ، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها . إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية ، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية . وهي من ألزم صفات القيادة .
أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوباً في قالب حديدي ؛ فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان ، لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية . والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالاً جامدة ، وليست نصوصاً حرفية ، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة . والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء . . وليس هذا كلاماً عائماً غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية . فهذه العقيدة - في أصولها الاعتقادية البحتة ، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها - تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري ، يهيئ لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية ؛ ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع ، لمجرد تنظيمها لا لخلقها وإنشائها . ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية ، لا بد قبلها من وجود مسلمين ، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر . والإ فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة ، ولا تحقق نظاماً يصح وصفه بأنه إسلامي . .
ومتى وجد المسلمون حقاً ، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته ، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية ، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها ؛ وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق .
وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة . ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيهاً مبكراً في حياة الجماعة الإسلامية . بل إنه ولد مع مولدها .
ولا بد للدعوة من الإنفاق . لا بد منه تطهيراً للقلب من الشح ، واستعلاء على حب الملك ، وثقة بما عند الله . وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان . ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة . فالدعوة كفاح . ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره . وأحياناً يكون هذا التكافل كاملاً بحيث لا يبقى لأحد مال متميز . كما حدث في أول العهد بهجرة المهاجرين من مكة ، ونزولهم على إخوانهم في المدينة . حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة .
وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات . .
وقوله : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } أي : اتبعوا رسله وأطاعوا أمره ، واجتنبوا زجره ، { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } وهي أعظم العبادات لله عز وجل ، { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } أي : لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا{[25920]} فيه ، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها ، كما قال تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] ولهذا كان عليه [ الصلاة ] {[25921]} السلام ، يشاورهم في الحروب ونحوها ، ليطيب بذلك قلوبهم . وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[25922]} الوفاة حين طعن ، جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر ، وهم : عثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف ، رضي الله عنهم أجمعين ، فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم ، رضي الله عنهم ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وذلك بالإحسان إلى خلق الله ، الأقرب إليهم منهم فالأقرب .
وقوله تعالى : { والذين استجابوا } مدح لكل من آمن بالله وقبل شرعه ، ومدح تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم ، لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي والتعاضد على الخير ، وفي الحديث : «ما تشاور قوم إلا هدوا لأحسن ما بحضرتهم »{[10160]} .
وقوله : { ومما رزقناهم ينفقون } معناه في سبيل الله وبرسم الشرع وعلى حدوده ، وفي القوام الذي مدحه تعالى في غير هذه الآية . وقال ابن زيد قوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم } الآية نزلت في الأنصار ، والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائناً من كان ، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين لها رضي الله تعالى عن جميعهم بمنه .