التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (80)

ثم عقب الله - تعالى - هذا الحكم عليهم بالعذاب الأليم ، بحكم آخر وهو عدم المغفرة لهم بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق ، فقال - تعالى - : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ . . . } .

قال الجمل : قال المفسرون : لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين ، وفى بيان نفاقهم ، وظهر أمرهم للمؤمنين ، جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذرون إليه ، ويقولون : استغفر لنا فنلزت هذه الآية .

وهذا كلام خرج مخرج الأمر ومعناه الخبر ، والتقدير : استغفارك وعدمه لهم سواء .

وإنما جاء هذا الخبر هنا في صورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما .

وقد جاء هذا الحكم في صورة الخبر في موضع آخر هو قوله - تعالى { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } والمقصود بذكر السبعين في قوله : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } إرادة التكثير ، والمبالغة في كثرة الاستغفار ، فقد جرت عادة العرب في أساليبهم على استعمال هذا العدد للتكثير لا للتحديد ، فهو لا مفهوم له .

ونظيره قوله - تعالى - { ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } أى : مهما استغفرت لهم يا محمد فلن يغفر الله لهم .

وقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } بيان للأسباب التي أدت إلى عدم مغفرة الله لهم .

واسم الإِشارة " ذلك " يعود إلى امتناع المغفرة لهم ، المفهوم من قوله : { فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } .

أى : ذلك الحكم الذي أصدرناه عليهم بعد مغفرة ذنوبهم مهما كثر استغفارك لهم ، سببه : أنهم قوم { كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ } ومن كفر بالله ورسوله ، فلن يغفر الله له ، مهما استغفر له المستغفرو ، وشفع له الشافعون .

وقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } تذييل مؤكد لما قبله ، أى والله - تعالى - لا يهدى إلى طريق الخير أولئك الذين فسقوا عن أمره ، وخرجوا عن طاعته ، ولم يستمعوا إلى نصح الناصحين ، وإرشاد المرشدين ، وإنما آثروا الغاواية على الهداية .

هذا ، ويؤخذ من هذه الآية الكريمة ، شدة شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته ، وحرصه على هدايتها ، وكثرة دعائه لها بالرحمة والمغفرة ، وأنه مع إيذاء المنافقين له كان يستغفر لهم - أملا في توبتهم - إلى أن نهاه الله عن ذلك .

روى ابن جرير " عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية ، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسمع ربى قد رخص له فيهم ، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة ، فلعل الله أن يغفر لهم ، فقال الله - تعالى - من شدة غضبه عليهم { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } " .

وهكذا أصدر الله حكمه العادل في هؤلاء المنافقين ، بعدم المغفرة لهم ، بسبب كفرهم به وبرسوله . . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (80)

( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم ، ذلك بأنهم كفروا باللّه ورسوله ، واللّه لا يهدي القوم الفاسقين ) . .

هؤلاء المنافقون الذين يلمزون المتطوعين بالصدقات على هذا النحو ، قد تقرر مصيرهم ، فما عاد يتبدل :

( فلن يغفر اللّه لهم ) . .

لن يجديهم استغفار ، فإنه وعدم الاستغفار لهم سواء .

ويبدو أن الرسول - [ ص ] - كان يستغفر للمخطئين عسى أن يتوب اللّه عليهم . فأما هؤلاء فقد أخبر بأن مصيرهم قد تقرر ، فلا رجعة فيه :

( ذلك بأنهم كفروا باللّه ورسوله ) . . ( واللّه لا يهدي القوم الفاسقين ) . .

أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعد ترجى لهم أوبة . وفسدت قلوبهم فلم يعد يرجى لها صلاح . .

( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم ) . .

والسبعون تذكر عادة للتكثير ، لا على أنها رقم محدد . والمعنى العام أن لا رجاء لهم في مغفرة ، لأنه لا سبيل لهم إلى توبة . والقلب البشري حين يصل إلى حد معين من الفساد لا يصلح ، والضلال حين ينتهي إلى أمد معين لا يرجى بعده اهتداء . واللّه أعلم بالقلوب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (80)

يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار ، وأنه لو استغفر لهم ، ولو سبعين مرة فإن الله لا يغفر لهم .

وقد قيل : إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم ؛ لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ، ولا تريد التحديد بها ، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها .

وقيل : بل لها مفهوم ، كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية : " أسمع ربي قد رخص لي فيهم ، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة ، لعل الله أن يغفر لهم ! فقال الله من شدة غضبه عليهم : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [ المنافقون : 6 ]

وقال الشعبي : لما ثَقُل عبد الله بن أبي ، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي قد احتضر ، فأحب أن تشهده وتصلي عليه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما اسمك " . قال الحباب بن عبد الله . قال : " بل أنت عبد الله بن عبد الله ، إن الحباب اسم شيطان " . قال : فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق ، وصلى عليه ، فقيل له : أتصلي عليه [ وهو منافق ]{[13716]} ؟ قال : " إن الله قال : { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ولأستغفرن له سبعين وسبعين وسبعين " .

وكذا روي عن عُرْوَة بن الزبير ومجاهد بن جُبَير ، وقتادة بن دِعَامة . رواها ابن جرير بأسانيده .


[13716]:- زيادة من ت ، أ.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ أَوۡ لَا تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ إِن تَسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ سَبۡعِينَ مَرَّةٗ فَلَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَهُمۡۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ} (80)

وقوله تعالى { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } يحتمل معنيين ، أحدهما أن يكون لفظ أمر ومعناه الشرط ، بمعنى إن استغفرت أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ، فيكون مثل قوله تعالى : { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم }{[5802]} وبمنزلة قول الشاعر : [ الكثير ]

أسيئي لنا أو أحسني لا ملومة*** لدينا ولا مقلية إن تقلت{[5803]}

وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره في معنى الآية ، والمعنى الثاني الذي يحتمله اللفظ أن يكون تخييراً ، كأنه قال له : إن شئت فاستغفر وإن شئت لا تستغفر ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر { سبعين مرة } وهذا هو الصحيح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبيينه ذلك .

وذلك أن عمر بن الخطاب سمعه بعد نزول هذه الآية يستغفر لهم فقال يا رسول الله ، أتستغفر للمنافقين وقد أعلمك الله أنه لا يغفر لهم ، فقال له «يا عمر إن الله قد خيرني فاخترت ، ولو علمت أني إذا زدت على السبعين يغفر لهم لزدت »{[5804]} ، ونحو هذا من مقاولة عمر في وقت إرادة النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على عبد الله بن أبي ابن سلول ، وظاهر صلاته عليه أن كفره لم يكن يقيناً عنده ، ومحال أن يصلي على كافر ، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عز وجل ، وعلى هذا كان ستر المنافقين من أجل عدم التعيين بالكفر .

وفي هذه الألفاظ التي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفض إلزام دليل الخطاب ، وذلك أن دليل الخطاب يقتضي أن الزيادة على السبعين يغفر معها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو علمت فجعل ذلك مما لا يعلمه ، ومما ينبغي أن يتعلم ويطلب علمه من الله عز وجل ، ففي هذا حجة عظيمة للقول برفض دليل الخطاب ، وإذا ترتب كما قلنا التخيير في هذه الآية صح أن ذلك التخيير هو الذي نسخ بقوله تعالى : في سورة المنافقون

{ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين }{[5805]} ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي القول بدليل الخطاب ، منها قوله : إن المدرك للتشهد وحده لا تلزمه أحكام الإمام لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة »{[5806]} فاقتضى دليل الخطاب أن من لم يدرك ركعة فليس بمدرك ، وله مسائل تقتضي رفض دليل الخطاب ، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «وفي سائمة الغنم الزكاة »{[5807]} فدليل الخطاب أن لا زكاة في غير السائمة ، ومالك يرى الزكاة في غير السائمة ، ومنها أن الله عز وجل يقول في الصيد { من قتله منكم متعمداً }{[5808]} فقال مالك : حكم المخطىء والمتعمد سواء ودليل الخطاب يقتضي غير هذا ، وأما تمثيله «السبعين » دون غيرها من الأعداد فلأنه عدد كثيراً ما يجيء غاية وتحقيقاً في الكثرة ، ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى وإلى أصحاب العقبة وقد قال بعض اللغويين إن التصريف الذي يكون من السين والباء والعين فهو شديد الأمر ، من ذلك السبعة فإنها عدد مقنع هي في السماوات وفي الأرض وفي خلق الإنسان وفي رزقه وفي أعضائه التي بها يطيع الله وبها يعصيه ، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس ، وهي{[5809]} عيناه وأذناه ولسانه وبطنه وفرجه ويداه ورجلاه ، وفي سهام الميسر وفي الأقاليم وغير ذلك .

ومن ذلك السبع والعبوس والعنبس ونحو هذا من القول{[5810]} ، وقوله { ذلك } إشارة إلى امتناع الغفران ، وقوله : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } إما من حيث هم فاسقون ، وإما أنه لفظ عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي على كفره .


[5802]:- من الآية (53) من سورة (التوبة).
[5803]:- البيت لكثير عزة، وفي بعض النسخ: "لنا" بدلا من "بنا"، ورواه في (اللسان) لا ملولة باللام، ومقلية: مكروهة، وتقلّت: فعلت ما تستحق من أجله الكره والبغض. قال في اللسان: الجوهري: تقلى أي تبغض، قال كثير: "أسيئي بنا.." البيت، ثم قال: "خاطبها ثم غابت". يعني انتقل من الخطاب إلى الغيبة.
[5804]:-أخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، والنحاس، وابن حبان، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قلت: أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت قال: يا عمر أخّر عنّي، إني قد خيرت، قد قيل لي: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}. فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها، ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره}، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل (الدر المنثور)
[5805]:- الآية رقم (6) من سورة (المنافقون).
[5806]:- أخرجه الشيخان، وأصحاب السنن الأربعة- عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5807]:- رواه مالك في "الموطأ"، ولفظه فيه: (وفي سائمة الغنم إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة-شاة).
[5808]:- من الآية (95) من سورة (المائدة).
[5809]:- الضمير عائد على الأعضاء التي يطيع العبد بها ربه ويعصيه.
[5810]:- قال الزمخشري في التعليل للتمثيل بالسبعين: "والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال علي رضي الله تعالى عنه: لأصبحن العاص وابن العاص سبعين ألفا عاقدي النواصي وقال الأزهري: "السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة لا السبعة التي فوق الستة"