والمثل فى اللغة : الشبيه والنظير ، وهو فى عرف القرآن الكريم : الكلام البليغ المشتمل على تشبيه بديع .
وضرب المثل : إيراده ، وعبر عن إيراده بالضرب ، لشدة ما يحدث عنه من التأثير فى نفس السامع .
أى : واضرب - أيها الرسول الكريم - مثلا للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ، وللكافرين الذين غرتهم الحياة الدنيا ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حى عن بينة .
قال الآلوسى : " والمراد بالرجلين ، إما رجلان مقدران على ما قيل ، وضرب المثل لا يقتضى وجودهما . وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه . فقيل هما رجلان من بنى إسرائيل أحدهما : كافر . . والآخر : مؤمن .
ثم قال : والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين ، لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا ، بل من أن للمؤمنين فى الآخرة كذا ، وللكافرين فيها كذا ، من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم فى نعم الله ، وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر " .
أى : واضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة ، والطاعة مع الفقر ، حال رجلين : { جعلنا لأحدهما } وهو الكافر { جنتين } أى : بستانين ، ولم يعين - سبحانه - مكانهما ، لأنه لم يتعلق بهذا التعيين غرض .
ثم بين ما اشتملت عليه هاتان الجنتان من خيرات فقال : { من أعناب } جمع عِنَب ، والعنبة الحبة منه . والمراد : من كروم متنوعة .
وقوله : { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } بيان لما أضيف إلى الجنتين من مناظر تزيدهما بهجة وفائدة .
والحف بالشئ : الإِحاطة به . يقال : فلان حفه القوم ، أى : أحاطوا به ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش . . . } أى : جعلنا لأحد الرجلين ، وهو الكافر منهما جنتين من أعناب ، وأحطناهما بنخل ليكون كالحماية النافعة لهما ، وجعلنا فى وسطهما زرعا وبذلك تكون الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه ، مشتملتين على ما من شأنه أن يشرح الصدر ، ويفيد الناس .
ثم تجيء قصة الرجلين والجنتين تضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية ، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة ، والنفس المعتزة بالله . وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس : صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري ، تذهله الثروة ، وتبطره النعمة ، فينسى القوة الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة . ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى ، فلن تخذله القوة ولا الجاه . وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه ، الذاكر لربه ، يرى النعمة دليلا على المنعم ، موجبة لحمده وذكره ، لا لجحوده وكفره . وتبدأ القصة بمشهد الجنتين في ازدهار وفخامة :
( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب ، وحففناهما بنخل ، وجعلنا بينهما زرعا . كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ، وفجرنا خلالهما نهرا . وكان له ثمر ) . .
فهما جنتان مثمرتان من الكروم ، محفوفتان بسياج من النخيل ، تتوسطهما الزروع ، ويتفجر بينهما نهر . . إنه المنظر البهيج والحيوية الدافقة والمتاع والمال :
يقول الله تعالى بعد ذكر{[18170]} المشركين المستكبرين عن مجالسة{[18171]} الضعفاء والمساكين من المسلمين ، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم ، فضرب لهم{[18172]} مثلا برجلين ، جعل الله { لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } أي : بستانين من أعناب ، محفوفتين بالنخل{[18173]} المحدقة في جنباتهما ، وفي خلالهما الزروع ، وكل من الأشجار والزروع مثمر مُقبلٌ في غاية الجود ؛ ولهذا قال : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلاً رّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً وَفَجّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزّ نَفَراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله ، الذين سألوك أن تطرُد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ، مَثلاً مثل رَجُلَينِ جَعَلْنا لأَحَدهِما جَنّتَيْنِ أي جعلنا له بساتين من كروم وحَفَفْناهُمَا بنَخْلٍ يقول : وأطفنا هذين البساتين بنخل . وقوله : وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعا يقول : وجعلنا وسط هذين البساتين زرعا .
عطف على جملة { وقل الحق من ربكم } الآيات ؛ فإنه بعد أن بين لهم ما أعد لأهل الشرك وذكر ما يقابله مما أعده للذين آمنوا ضرب مثلاً لحال الفريقين بمثل قصة أظهر الله فيها تأييده للمؤمن وإهانته للكافر ، فكان لذلك المَثل شَبَه بمَثل قصة أصحاب الكهف من عصر أقرب لعلم المخاطبين مِن عصر أهل الكهف ، فضرب مثلاً للفريقين للمشركين وللمؤمنين بمَثل رجلين كان حالُ أحدهما معجباً مؤنِقاً وحال الآخر بخلاف ذلك ؛ فكانت عاقبة صاحب الحال المونقة تَبَاباً وخسارة ، وكانت عاقبة الآخر نجاحاً ، ليظهر للفريقين ما يجره الغرور والإعجاب والجبروت إلى صاحبه من الأرزاء ، وما يلقاه المؤمن المتواضع العارف بسُنن الله في العالم من التذكير والتدبر في العواقب فيكون معرضاً للصلاح والنجاح .
واللام في قوله : { لهم } يجوز أن يتعلق بفعل { واضرب } كقوله تعالى : { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } [ الروم : 28 ] . ويجوز أن يتعلق بقوله : مثلاً } تعلق الحال بصاحبها ، أي شبها لهم ، أي للفريقين كما في قوله تعالى : { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل : 74 ] ، والوجهُ أن يكون متنازعاً فيه بين ضَرب ، ومثَلاً .
والضمير في قوله : { لهم } يعود إلى المشركين من أهل مكة على الوجه الأول ولم يتقدم لهم ذكر ، ويعود إلى جماعة الكافرين والمؤمنين على الوجه الثاني .
ثم إن كان حال هذين الرجلين الممثل به حالاً معروفاً فالكلام تمثيل حال محسوس بحال محسوس . فقال الكلبي : المعنيُّ بالرجلين رجلان من بني مخزوم من أهل مكة أخوان أحدهما كافر وهو الأسود بن عبد الأشد بشين معجمة وقيل بسين مهملة بن عبد يالِيل ، والآخر مسلم وهو أخوه : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأشد بن عبد ياليل . ووقع في « الإصابة » : بن هلال ، وكان زوجَ أم سلمة قبل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولم يذكر المفسرون أين كانت الجنتان ، ولعلهما كانتا بالطائف فإن فيه جنات أهل مكة .
وعن ابن عباس : هما أخوان من بني إسرائيل مات أبوهما وترك لهما مالاً فاشترى أحدهما أرضاً وجعل فيها جنتين ، وتصدق الآخر بماله فكان من أمرهما في الدنيا ما قصه الله تعالى في هذه السورة ، وحكى مصيرهما في الآخرة بما حكاه الله في سورة الصافات ( 50 52 ) في قوله : { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول إنك لمن المصدقين } الآيات . . فتكون قصتهما معلومة بما نزل فيها من القرآن في سورة الصافات قبل سورة الكهف .
وإن كان حال الرجلين حالاً مفروضاً كما جَوّزه بعض المفسرين فيما نقله عنه ابن عطية فالكلام على كل حال تمثيل محسوس بمحسوس لأن تلك الحالة متصورة متخيلة . قال ابن عطية : فهذه الهيئة التي ذكرها الله تعالى لا يكاد المرء يتخيل أجملَ منها في مكاسب الناس ، وعلى هذا الوجه يكون هذا التمثيل كالذي في قوله تعالى : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة } [ البقرة : 265 ] الآيات .
والأظهر من سياق الكلام وصنع التراكيب مثل قوله : { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } [ الكهف : 37 ] الخ فقد جاء ( قال ) غير مقترن بفاء وذلك من شأن حكاية المحاورات الواقعة ، ومثل قوله : { ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا } [ الكهف : 43 ] أن يكون هذا المثل قصة معلومة ولأن ذلك أوقع في العبرة والموعظة مثل المواعظ بمصير الأمم الخالية .
ومعنى { جعلنا لأحدهما } قدرنا له أسباب ذلك .
وذِكر الجنة والأعناب والنخل تقدم في قوله تعالى : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } في سورة البقرة ( 266 ) .
ومعنى { حففناهما } أحطناهما ، يقال : حفّه بكذا ، إذا جعله حافاً به ، أي محيطاً ، قال تعالى : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [ الزمر : 75 ] ، لأن ( حف ) يتعدى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى ثانٍ عدي إليه بالباء ، مثل : غشيه وغشاه بكذا . ومن محاسن الجنات أن تكون محاطة بالأشجار المثمرة .
ومعنى { وجعلنا بينهما زرعاً } ألهمناه أن يجعل بينهما . وظاهر الكلام أن هذا الزرع كان فاصلاً بين الجنتين : كانت الجنتان تَكْتنِفان حَقْل الزرع فكان المجموع ضيعة واحدة . وتقدم ذكر الزرع في سورة الرعد .