ولذا أمر الله تعالى : رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم فقال : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله . . . } .
أى : قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين المتعاجلين للعذاب : إنني لا أملك لنفسي - فضلا عن غيرها - شيئامن الضر فأدفعه عنها ، ولا شيئا من النفع فأجلبه لها ، لكن الذي يملك ذلك هو الله وحده ، فهو - سبحانه - الذي يملك أن ينزل العذاب بكم في أى وقت يشاء ، فلماذا تطلبون منى ما ليس في قدرتي . وعلى هذا التفسير يكون الاستثناء منقطعا .
ويجوز أن يكون متصلا فيكون المعنى : قل لهم يا محمد إنني لا أملك لنفسي شيئا من الضر أو النفع ، إلا ما شاء الله - تعالى - أن يجعلني قادرا عليه منهما ، فإنني أملكه بمشيئته وإرادته .
وقدم - سبحانه - الر على النفع هنا ، لأن الآية مسوقة للرد على المشركين ، الذين تعجلوا نزول العذاب الذي هو نوع من الضر .
أما الآية التي في سورة الأعراف ، وهى قوله - تعالى - { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله . . } فقد قدم النفع على الضر ، لأنها مسوقة لبيان الحقيقة في ذاتها ، وهى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه شيئا من التصرف في هذا الكون ، وللإِشعار بأن النفع هو المقصود بالذات من تصرفات الإِنسان .
وقوله : { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } تأكيد لما قبله ، وتقرير لقدرة الله - تعالى - النافذة .
أى : لكل أمة من الأمم أجل قدره الله - تعالى - لانتهاء حياتها ، فإذا حان وقت هذا الأجل هلكت في الحال دون أن تتقدم على الوقت المحدد لموتها ساعة أو تتأخر أخرى .
( قل : لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله ، لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) . .
وإذا كان الرسول [ ص ] لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال . [ وقد قدم ذكر الضر هنا ، وإن كان مأموراً أن يتحدث عن نفسه ، لأنهم هم يستعجلون الضر ، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر . أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير ، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ] .
( قل : لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعاً . . إلا ما شاء الله . . ) .
فالأمر إذن لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه . وسنة الله لا تتخلف ، وأجله الذي أجله لا يستعجل :
( لكل أمة أجل ، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) . .
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي . هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية . وقد ينتهي بالهلاك المعنوي . هلاك الهزيمة والضياع . وهو ما يقع للأمم ، إما لفترة تعود بعدها للحياة ، وإما دائماً فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة ، وإن بقيت كأفراد . . وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل ، لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلماً ولا محاباة . فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها . والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها ، والرسول يدعوها لما يحييها . لا بمجرد الاعتقاد ، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة . وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه اللّه لها ، والشريعة التي أنزلها ، والقيم التي قررها . وإلا جاءها الأجل وفق سنة اللّه . .
أي : لا أقول إلا ما علَّمني ، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني عليه ، فأنا عبده ورسوله إليكم ، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ، ولم يطلعني على وقتها ، [ ولكن ]{[14262]} { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي : لكل قرن مدَّة من العمر مقدَّرة{[14263]} فإذا انقضى أجلهم { فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } كما قال تعالى : { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا } [ المنافقون : 11 ] ،
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ لِكُلّ أُمّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لمستعجليك وَعيدَ الله ، القائلين لك : متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين : لا أمْلِكُ لَنْفِسي أيها القوم أي لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع في دنيا ولا دين إلا ما شاء الله أن أملكه فأجلبه إليها بأذنه . يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : فإذا كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه ، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز وأعجز ، إلاّ بمشيئته وإذنه لي في ذلك . لكلّ أمةٍ أجَلٌ يقول : لكلّ قوم ميقات لانقضاء مدتهم وأجلهم ، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم ، لا يستأخرون عنه ساعة فيُمْهَلُون وُيؤَخّرون ، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن الله قضى أن لا يتقدّم ذلك قبل الحين الذي قدّره وقضاه .
ثم أمره تعالى أن يقول لهم { لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله } ، المعنى قل لهم يا محمد رداً للحجة إني { لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً } من دون الله ولا أنا إلا في قبضة سلطانه وبضمن الحاجة إلى لطفه ، فإذا كنت هكذا فأحرى أن لا أعرف غيبه ولا أتعاطى شيئاً من أمره ، لكن { لكل أمة أجل } انفرد الله تعالى بعلم حده ووقته ، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة لم يتأخروا ساعة ولا أمكنهم التقدم عن حد الله عز وجل ، وقرأ ابن سيرين «آجالهم » بالجمع .
معنى : { لا أملك لنفسي ضَراً ولا نفعاً } : لا أستطيع ، كما تقدم في قوله تعالى : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضَراً ولا نفعاً } في سورة [ العقود : 76 ] .
وقدم الضر على النفع لأنه أنسب بالغرض لأنهم أظهروا استبطاء ما فيه مضرتهم وهو الوعيد ولأن استطاعة الضر أهون من استطاعة النفع فيكون ذكر النفع بعده ارتقاء . والمقصود من جمع الأمرين الإحاطةُ بجنسي الأحوال . وتقدم في سورة الأعراف وجه تقديم النفع على الضر في نظير هذه الآية .
وقوله : { إلا ما شاء الله } استثناء منقطع بمعنى لكن ، أي لكن نفعي وضري هو ما يشاءه الله لي . وهذا الجواب يقتضي إبطال كلامهم بالأسلوب المصطلح على تلقيبه في فن البديع بالمذهب الكلامي ، أي بطريق برهاني ، لأنه إذا كان لا يستطيع لنفسه ضراً ولا نفعاً فعدم استطاعته ما فيه ضَر غيره بهذا الوعد أولى من حيث إن أقرب الأشياء إلى مقدرة المرء هو ما له اختصاص بذاته ، لأن الله أودع في الإنسان قدرة استعمال قواه وأعضائه ، فلو كان الله مقدراً إياه على إيجاد شيء من المنافع والمضار في أحوال الكون لكان أقرب الأشياء إلى إقداره ما له تعلق بأحوال ذاته ، لأن بعض أسبابها في مقدرته ، فلا جرم كان الإنسان مسيّراً في شؤونه بقدرة الله لأن معظم أسباب المنافع والمضار من الحوادث منوط بعضه ببعض ، فموافقاته ومخالفاته خارجة عن مقدور الإنسان ، فلذلك قد يقع ما يضره وهو عاجز عن دفعه .
فكان معنى الجواب : أن الوعد من الله لا مِني وأنا لا أقدر على إنزاله بكم لأن له أجلاً عند الله .
وجملة : { لكل أمة أجل } من المقول المأمور به ، وموقعها من جملة : { لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً } موقع العلة لأن جملة { لا أملك لنفسي } اقتضت انتفاء القدرة على حلول الوعد .
وجملة : { لكل أمة أجل } تتضمن أن سبب عدم المقدرة على ذلك هو أن الله قدر آجال أحوال الأمم . ومن ذلك أجل حلول العقاب بهم بحكمة اقتضت تلك الآجال فلا يحل العقاب بهم إلا عند مجيء في ذلك الأجل ، فلا يقدر أحد على تغيير ما حدده الله .
وصورة الاستدلال بالطريق البرهاني أن قضية { لكل أمة أجل } قضية كلية تشمل كل أمة . ولما كان المخاطبون من جملة الأمم كانوا مشمولين لحكم هذه القضية فكأنه قيل لهم : أنتم أمة من الأمم ولكل أمة أجل فأنتم لكم أجل فترقبوا حلوله .
وجملة : { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } صفة ل ( أجل ) ، أي أجل محدود لا يقبل التغير . وقد تقدم الكلام على نظيرها في سورة الأعراف .
و { إذا } في هذه الآية مشربة معنى الشرط ، فلذلك اقترنت جُملة عاملها بالفاء الرابطة للجواب معاملة للفعل العامل في ( إذا ) معاملة جواب الشرط .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لمستعجليك وَعيدَ الله، القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين:"لا أمْلِكُ لَنْفِسي" أيها القوم أي لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع في دنيا ولا دين "إلا ما شاء الله "أن أملكه فأجلبه إليها بأذنه. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: فإذا كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز وأعجز، إلاّ بمشيئته وإذنه لي في ذلك. "لكلّ أمةٍ أجَلٌ" يقول: لكلّ قوم ميقات لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم، لا يستأخرون عنه ساعة فيُمْهَلُون وُيؤَخّرون، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن الله قضى أن لا يتقدّم ذلك قبل الحين الذي قدّره وقضاه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً)... يقول: لا أقدر على أن أدفع عن نفسي سوءا حين ينزل بي، ولا أملك أن أسوق إليها خيرا البتة. فإذا لم أملك هذا كيف أملك إنزال العذاب عليكم؟ إنما ذلك إلى الله هو المالك له والقادر على ذلك، لا يملك أحد ذلك سواه، وهو كقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم) [الكهف: 110].
وقوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي إذا جاء أجلهم لا يقدرون على تقديمه: ليس على أنهم لا يطلبون تأخيره ولا تقديمه، فيسألون ذلك، ولكن لا يؤخر إذا جاء، ولا يقدم قبل أجله.
وفيه دلالة ألا يهلك أحد قبل أجله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المملوكُ متى يكون له مِلْك؟! وإذا كان سيِّدُ البرايا- عليه الصلاة والسلام -لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً.. فَمَنْ نَزَلَتْ رُتْبَتُه، وتقاصرَتْ حالتُه متى يملك ذرة أو تكون باختياره وإيثاره شمةٌ؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا} من مرض أو فقر {وَلاَ نَفْعاً} من صحة أو غنى {إِلاَّ مَا شَاء الله} استثناء منقطع: أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟
{لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} يعني أن عذابكم له أجل مضروب عند الله وحدّ محدود من الزمان {إِذَا جَاء} ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة، فلا تستعجلوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لكل أمة أجل} انفرد الله تعالى بعلم حده ووقته، فإذا جاء ذلك الأجل في موت أو هلاك أمة لم يتأخروا ساعة ولا أمكنهم التقدم عن حد الله عز وجل.
ثم أنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله: {قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله} والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتا معينا حتى يقال: لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت، دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضا إلى الله سبحانه، إما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح، وإما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث، فإنه لا بد وأن يحدث فيه، ويمتنع عليه التقدم والتأخر...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: لا أقول إلا ما علَّمني، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني عليه، فأنا عبده ورسوله إليكم، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة، ولم يطلعني على وقتها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تضمن قولهم هذا استعجاله صلى الله عليه وسلم بما يتوعدهم به، أمره بأن يتبرأ من القدرة على شيء لم يقدره الله عليه بقوله: {قل} أي لقومك المستهزئين {لا أملك لنفسي} فضلاً عن غيري؛ ولما كان السياق للنقمة، قدم الضر منبهاً على أن نعمه أكثر من نقمه؛ وأنهم في نعمه، عليهم أن يقيدوها بالشكر خوفاً من زوالها فضلاً عن أن يتمنوه فقال: {ضراً ولا نفعاً}.
ولما كان من المشاهد أن كل حيوان يتصرف في نفسه وغيره ببعض ذلك قال: {إلا ما شاء الله} أي المحيط علماً وقدرة أن أملكه من ذلك، فكأنه قيل: فما لك لا تدعوه بأن يشاء ذلك و يقدرك عليه؟ فقيل: {لكل أمة أجل} فكأنه قيل: و ماذا يكون فيه؟ فقيل: {إذا جاء أجلهم} هلكوا؛ ولما كان قطع رجائهم من الفسحة في الأجل من أشد عذابهم، قدم قوله: {فلا يستأخرون} أي عنه {ساعة} ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها {ولا يستقدمون} فلا تستعجلوه فإن الوفاء بالوعد لا بد منه. والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي لا يوجد لهم المعنى الذي صيغ منه الفعل مثل: استشكل الشيء واستثقله، ويجوز كون المعنى: لا يوجدون التأخر ولا التقدم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب والملك قوة يتمكن بها من تصريف الشيء أتم تصريف، والنفع: إيجاب اللذة بفعلها والتسبب المؤدي إليها؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب إليه؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وفي هذه أعظم واعظ، وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه.
فإن هذا مقام ربّ العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين، وجميع المخلوقين، ورزقهم، وأحياهم ويميتهم، فكيف يطلب من نبيّ من الأنبياء، أو ملك من الملائكة، أو صالح من الصالحين، ما هو عاجز عنه غير قادر عليه، ويترك الطلب لربّ الأرباب القادر على كل شيء، الخالق الرازق المعطي المانع؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة، فإن هذا سيد ولد آدم، وخاتم الرسل، يأمره الله بأن يقول لعباده: لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً، فكيف يملكه لغيره، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه، فضلاً عن أن يملكه لغيره، فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك، ولا يتنبهون لما حلّ بهم من المخالفة لمعنى: لا إله إلا الله، ومدلول: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}؟ وأعجب من هذا: اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء، ولا ينكرون عليهم، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى، بل إلى ما هو أشدّ منها، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق، المحيي المميت، الضارّ النافع، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله، ومقرّبين لهم إليه، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضرّ والنفع، وينادونهم تارة على الاستقلال، وتارة مع ذي الجلال، وكفاك من شرّ سماعه، والله ناصر دينه، ومطهر شريعته من أوضار الشرك، وأدناس الكفر، ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه، وينثلج به صدره، من كفر كثير من هذه الأمة المباركة {وَهُمْ يَحْسبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} {إنا لله وإنا إليه راجعون}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وههنا لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب بقوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً} أي إني بشر رسول لا أملك لنفسي فضلا عن غيرها شيئا من التصرف في الضر فأدفعه عنها، ولا النفع فأجلبه لها، من غير طريق الأسباب التي يقدر غيري عليها، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين، ولا هبة النصر للمؤمنين.
{إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} أي لكن ما شاء الله من ذلك كان متى شاء، لا شأن لي فيه؛ لأنه خاص بالربوبية دون الرسالة التي وظيفتها التبليغ لا التكوين. هكذا قال جمهور المفسرين: إن الاستثناء هنا منقطع، وله أمثال تقدم بعضها، كقوله تعالى -وهو من أظهرها الصريح في هذا المقام- {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ولَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
والاختلاف بين الآيتين في تقديم ذكر الضر على النفع وتأخيره لاختلاف المقام، فقد قدم الضر في آية يونس لأنها جواب للمشركين عن ميعاد العذاب الذي أنذروا به، وهو من الضر، وقدم النفع في آية الأعراف لأن المقام بيان الحقيقة في نفسها، وهو أن الرسول لا يملك لنفسه شيئا من التصرف في الكون بغير الأسباب العامة فضلا عن ملكه لغيره، والمناسب في هذا تقديم النفع لأنه هو المقصود بالذات من تصرف الإنسان وسعيه لنفسه. وقيل: إن الاستثناء متصل، وحينئذ يكون المنفي المستثنى منه عالما لما يملكه الإنسان بالأسباب العادية، فيكون المعنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه بما أعطاني من الكسب الاختياري مع تيسير أسبابه لي، وأما الآيات الخارقة للعادة فهي لله وحده، ولا مما يملكه رسله.
وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال بقوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} لبقائها وهلاكها علِمه الله وقدره لها، لا يعلمه ولا يقدر عليه غيره.
{إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي فلا يملك رسولهم -من دونه تعالى- أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلّت، ولا أن يطلب ذلك منه تعالى، وهو معنى ما تدل عليه السين والتاء في الأصل، وقد حققنا معنى هذا النص في آية سورة الأعراف بلفظه فاستغرق أربع ورقات من جزء التفسير الثامن فليراجعه من شاء، إلا أنه قال هنالك {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} [الأعراف: 34] الخ، وقال هنا {إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون} الخ والفرق بينهما أن ما هنا أبلغ في نفي تأخير الوعيد؛ لأنه تفنيد لاستعجالهم به، وذلك أنه جعل الجملة الشرطية وصفا للأجل مرتبطا به مباشرة لا يتخلف عنه، وما هنالك إخبار بآجال الأمم مبتدأ، وما بعده تفريع عليه، فهو لا يدل على لزومه له بلا مهملة كالذي هنا. وقد تكرر هذا السؤال من المشركين مع جوابه في سور أخرى، وأشبهه بما هنا سياق سورة النمل وأجيب فيها بقوله: {قل عسى أن يكون رديف لكم بعض الذي تستعجلون} [النمل: 72] وهو من ردفه إذا لحقه وتبعه، وعدى باللام لتأكيده أو تضمينه معنى يناسبه.
وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين -حتى الميتين منهم- على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم، مما لم يجعله الله تعالى من الكسب المقدور لهم بمقتضى سننه في الأسباب، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي. هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي. هلاك الهزيمة والضياع. وهو ما يقع للأمم، إما لفترة تعود بعدها للحياة، وإما دائماً فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد.. وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل، لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلماً ولا محاباة. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها. لا بمجرد الاعتقاد، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة. وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه اللّه لها، والشريعة التي أنزلها، والقيم التي قررها. وإلا جاءها الأجل وفق سنة اللّه...