إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي ضَرّٗا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ} (49)

أي لا أقدِر على شيء منهما بوجه من الوجوه ، وتقديمُ الضر لِما أن مساقَ النظمِ لإظهار العجزِ عنه ، وأما ذكرُ النفعِ فلتوسيع الدائرةِ تكملةً للعجز ، وما وقع في سورة الأعرافِ من تقديم النفعِ للإشعار بأهميته والمقامُ مقامُه ، والمعنى إني لا أملك شيئاً من شؤوني رداً وإيراداً مع أن ذلك أقربُ حصولاً فكيف أملك شؤونَكم حتى أتسبّبَ في إتيان عذابِكم الموعودِ { إِلاَّ مَا شَاء الله } استثناءٌ منقطعٌ أي ولكن ما شاء الله كائناً وحملُه على الاتصال على معنى إلا ما شاء الله أن املِكَه يأباه مقامُ التبُّرؤ من أن يكون له عليه السلام دخلٌ في إتيان الوعدِ فإن ذلك يستدعي بيانَ كونِ المتنازَعِ فيه مما لا يشاء الله أن يملِكه عليه السلام ، وجعلُ ( ما ) عبارةً عن بعض الأحوالِ المعهودةِ المنوطةِ بالأفعال الاختياريةِ المفوضة إلى العباد على أن يكون المعنى لا أملك لنفسي شيئاً من الضر والنفعِ إلا ما شاء الله أن أملِكه منهما من الضر والنفعِ المترتبَيْن على الأكل والشربِ عدماً ووجوداً تعسّفٌ ظاهرٌ ، وقوله تعالى : { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } بيانٌ لما أُبهم في الاستثناء وتقييدٌ لما في القضاء السابقِ من الإطلاق المُشعِر بكون المقضيِّ به أمراً مُنجزاً غيرَ متوقَّفٍ على شيء غيرِ مجيءِ الرسولِ وتكذيبِ الأمة أي لكل أمةٍ أمة ممن قُضي بينهم وبين رسولِهم أجلٌ معينٌ خاصٌّ بهم لا يتعدى إلى أمة أخرى مضروبٍ لعذابهم يحِلّ بهم عند حلولِه { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } إن جُعل الأجلُ عبارةً عن حد معينٍ من الزمان فمعنى مجيئِه ظاهرٌ ، وإن أريد به ما امتدّ إليه من الزمان فمجيئُه عبارةٌ عن انقضائِه إذ هناك يتحقق مجيئُه بتمامه ، والضميرُ إن جُعل للأمم المدلولِ عليها بكل أمةٍ فإظهارُ الأجلِ مضافاً إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغُ كل أمةٍ أجلَها الخاصِّ بها ، ومجيئُه إياها بعينها من بين الأممِ بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموماً يفيده معنى الجمعيةِ كأنه قيل : إذا جاءهم آجالُهم بأن يجيءَ كلَّ واحدةٍ من تلك الأممِ أجلُها الخاصُّ بها ، وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ ، والإضافةُ إلى الضمير لإفادة كمالِ التعيين أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها { فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجلِ { سَاعَةً } أي شيئاً قليلاً من الزمان فإنها مثَلٌ في غاية القلةِ منه أي لا يتأخرون عنه أصلاً ، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي لا يتقدمون عليه وهو عطفٌ على يستأخرون لكنْ لا لبيان انتفاءِ التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر ، بل للمبالغة في انتفاءِ التأخرِ بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كما في قوله سبحانه وتعالى : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إني تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [ النساء ، الآية 18 ] فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم قَبولِ التوبةِ في سلك من سوّفها إلى حضور الموتِ إيذاناً بتساوي وجودِ التوبةِ حينئذٍ وعدِمها بالمرة ، كما مر في سورة الأعراف ، وقد جُوز أن يراد بمجيء الأجلِ دنوُّه بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ معينةٌ منه لكن ليس في تقييد عدمِ الاستئخار بدنوه مزيدُ فائدةٍ ، وتقديمُ بيان انتفاءِ الاستئخار على بيان انتفاءِ الاستقدامِ لأن المقصودَ الأهمَّ بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب ولو ساعةً وذلك بالتأخر ، وأما ما في قوله تعالى : { ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ } [ الحجر :5 ] من سبق السبْقِ في الذكر فلما أن المرادَ هناك بيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الحجر : 3 ] فالأهمُّ إذ ذاك بيانُ انتفاءِ السبقِ كما ذكر هناك .