فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي ضَرّٗا وَلَا نَفۡعًا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌۚ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ فَلَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ} (49)

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادّة الشبهة ويقطع اللجاج فقال : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا وَلاَ نَفْعًا } أي : لا أقدر على جلب نفع لها ، ولا دفع ضرّ عنها ، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري ، وقدّم الضرّ ، لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء الله } منقطع كما ذكره أئمة التفسير ، أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كان ، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً ، وفي هذه أعظم واعظ ، وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه ، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه .

فإن هذا مقام ربّ العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين ، وجميع المخلوقين ، ورزقهم ، وأحياهم ويميتهم ، فكيف يطلب من نبيّ من الأنبياء ، أو ملك من الملائكة ، أو صالح من الصالحين ، ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ، ويترك الطلب لربّ الأرباب القادر على كل شيء ، الخالق الرازق المعطي المانع ؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم ، وخاتم الرسل ، يأمره الله بأن يقول لعباده : لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً ، فكيف يملكه لغيره ، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه ، فضلاً عن أن يملكه لغيره ، فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ، ولا يتنبهون لما حلّ بهم من المخالفة لمعنى : لا إله إلا الله ، ومدلول : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } ؟ وأعجب من هذا : اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ، ولا ينكرون عليهم ، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى ، بل إلى ما هو أشدّ منها ، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، الضارّ النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، ومقرّبين لهم إليه ، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضرّ والنفع ، وينادونهم تارة على الاستقلال ، وتارة مع ذي الجلال ، وكفاك من شرّ سماعه ، والله ناصر دينه ، ومطهر شريعته من أوضار الشرك ، وأدناس الكفر ، ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه ، وينثلج به صدره ، من كفر كثير من هذه الأمة المباركة { وَهُمْ يَحْسبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } { إنا لله وإنا إليه راجعون } .

/خ49