التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (63)

ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على سعة فضله ورحمته بعباده فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ . . . } .

الاستفهام فى قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً . . . } للتقرير .

وقوله : { مُخْضَرَّةً } أى : ذات خضرة بسبب النبات الذى ينبته الله فيها بعد نزول المطر عليها .

والمعنى : لقد رأيت ببصرك وعلمت ببصيرتك أيها المخاطب أن الله - تعالى - قد أنزل من السماء ماء ، فتصير الأرض بسببه ذات خضرة ، وفى ذلك أعظم الأدلة على كمال قدرته ، وعظيم رحمته بعباده .

وقال - سبحانه - { فَتُصْبِحُ } بصيغة المضارع ، لاستحضار صورة الاخضرار ، الذى اتصف به الأرض بعد نزول المطر عليها ، وصيغة الماضى لا تفيد دوام استحضارها ، لأن الفعل الماضى يفيد انقطاع الشىء .

ولم ينصب هذا الفعل المضارع فى جواب الاستهفام ، لأن الاستفهام تقريرى فهو فى معنى الخبر ، والخبر لا جواب له ، فكأنه قيل : لقد رأيت ، ولأن السببية هنا غير متحققة ، إذ الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض ، وإنما اخضرارها يكون بسبب نزول المطر .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى ذلك فقال : فإن قلت : هلا قيل : فأصبحت ؟ ولم صرف إلى لفظ المضارع ؟

قلت : لنكتة فيه وهى إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان ، كما تقول : أنعم علىَّ فلان عام كذا ، فأروح وأغدوا شاكرا له . ولو قلت : فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع . فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام ؟

قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفى الاخضرار . مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أنى أنعمت عليك فتشكر . إن نصبته فأنت ناف لشكره . شاك تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من استم بالعلم فى علم الإعراب وتوقير أهله .

وقال بعض العلماء ما ملخصه : فإن قيل : كيف قال فتصبح مع أن اخضرار الأرض قد يتأخر عن صبيحة المطر .

فالجواب : أن تصبح هنا بمعنى تصير ، والعرب تقول : فلان أصبح غنيا ، أى : صار غنيا ، أو أن الفاء للتعقيب ، وتعقيب كل شىء بحسبه ، كقوله - تعالى - : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً . . . } مع أن بين كل شيئين أربعين يوما ، كما جاء فى الحديث الصحيح .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أى : إن الله - تعالى - لطيف بعباده .

ومن مظاهر لطفه بهم ، إنزاله المطر على الأرض للانتفاع بما تنبته من كل زوج بهيج ، وهو - تعالى - خبير بأحوال عباده ، لا يعزب عن عمله مثقال ذرة من هذه الأحوال . فإنه - سبحانه - { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (63)

58

ويستطرد السياق في استعراض دلائل القدرة في مشاهد الكون المعروضة للناس في كل حين :

( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فتصبح الأرض مخضرة ? إن الله لطيف خبير ) .

ونزول الماء من السماء ، ورؤية الأرض بعده مخضرة بين عشية وصباح . . ظاهرة واقعة مكرورة . قد تذهب الألفة بجدتها في النفوس . فأما حين يتفتح الحس الشاعر ، فإن هذا المشهد في الأرض يستجيش في القلب شتى المشاعر والأحاسيس . وإن القلب ليحس أحيانا أن هذا النبت الصغير الطالع من سواد الطين ، بخضرته وغضارته ، أطفال صغار تبسم في غزارة لهذا الوجود الشائق البهيج ، وتكاد من فرحتها بالنور تطير !

والذي يحس على هذا النحو يستطيع أن يدرك ما في التعقيب بقوله : ( إن الله لطيف خبير ) . . من لطف وعمق ومشاكلة للون هذا الإحساس ، ولحقيقة ذلك المشهد وطبيعته . فمن اللطف الإلهي ذلك الدبيب اللطيف . دبيب النبتة الصغيرة من جوف الثرى ، وهي نحيلة ضئيلة ، ويد القدرة تمدها في الهواء ، وتمدها بالشوق إلى الارتفاع على جاذبية الأرض وثقلة الطين . . وبالخبرة الإلهية يتم تدبير الأمر في إنزال الماء بقدر في الوقت المناسب وبالقدر المطلوب ويتم امتزاج الماء بالتربة ، وبخلايا النبات الحية المتطلعة إلى الانطلاق والنور !

والماء ينزل من سماء الله إلى أرضه ، فينشى ء فيها الحياة ، ويوفر فيها الغذاء والثراء . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (63)

وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه ، فإنه يرسل{[20400]} الرياح ، فتثير سحابا ، فيمطر على الأرض الجُرُز التي{[20401]} لا نبات فيها ، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة ، { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج : 5 ] .

وقوله : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } ، الفاء هاهنا للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، كما قال : { خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 14 ] ، وقد ثبت في الصحيحين : " أن بين كل شيئين أربعين يوما " ومع هذا هو معقب{[20402]} بالفاء ، وهكذا هاهنا قال : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } أي : خضراء بعد يبسها ومُحُولها{[20403]} .

وقد ذكر عن بعض أهل{[20404]} الحجاز : أنها تصبح عقب المطر خضراء ، فالله أعلم .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر ، لا يخفى عليه خافية ، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به ، كما قال لقمان : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] ، وقال : { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ النمل : 25 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وقال { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ } الآية [ يونس : 61 ] ؛ ولهذا قال أمية بن [ أبي ]{[20405]} الصلت - أو : زيد بن عمرو بن نُفيل - في قصيدته :

وَقُولا لَه : مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى *** فَيُصبحَ منْهُ البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابيَا?

ويُخْرجُ منْهُ حَبَّه في رُؤُوسه *** فَفي ذَاك آيات لمَنْ كَانَ وَاعيا{[20406]}


[20400]:- في أ : "وأنه مرسل".
[20401]:- في أ : "الذي".
[20402]:- في أ : "تعقيب".
[20403]:- في أ : "وقحوطا".
[20404]:- في هـ ت : "أرض" والمثبت من ف ، أ.
[20405]:- زيادة من ف ، أ.
[20406]:- انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (63)

القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } .

يقول تعالى ذكره : ألَمْ تَرَ يا محمد أنّ اللّهَ أنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً يعني مطرا ، فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً بما ينبت فيها من النبات . إنّ اللّهَ لَطِيفٌ باستخراج النبات من الأرض بذلك الماء وغير ذلك من ابتداع ما شاء أن يبتدعه . خَبِيرٌ بما يحدث عن ذلك النبت من الحبّ وبه . قال : فَتُصْبِحُ الأرْضُ فرفع ، وقد تقدمه قوله : ألَمْ تَرَ وإنما قيل ذلك كذلك لأن معنى الكلام الخبر ، كأنه قيل : أعلم يا محمد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض ونظير ذلك قول الشاعر :

ألَمْ تَسْأَلِ الرّبْعَ القَدِيمَ فيَنْطِقُ *** وهلْ تُخْبِرَنْكَ اليوْمَ بَيْداءُ سَمْلَقُ

لأن معناه : قد سألته فنطق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ} (63)

{ ألم تر } تنبيه{[8424]} وبعده خبر { أن الله } تعالى { أنزل من السماء ماء } فظلت { الأرض } تخضر عنه ، وقوله { فتصبح الأرض } بمنزلة قوله فتضحي أو فتصير عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء واستمرارها كذلك عادة ، ورفع قوله { فتصبحُ } من حيث الآية خبر والفاء عاطفة وليست بجواب لأن كونها جواباً لقوله { ألم تر } فاسد المعنى{[8425]} ، وروي عن عكرمة أنه قال : هذا لا يكون إلا بمكة وتهامة ومعنى هذا أنه أخذ قوله

{ فتصبح } مقصوداً به صباح ليلة المطر وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر{[8426]} .

قال القاضي أبو محمد : وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى نزل المطر بعد قحط وأصبحت تلك الأرض التي تسقيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق ، وقرأ الجمهور «مخضرة » ، وقرأت فرقة : [ مخضرة ]{[8427]} . و «اللطيف » المحكم للأمور برفق .


[8424]:قال الفراء في (معاني القرآن): المعنى في {ألم تر} خبر، كأنك قلت في الكلام: اعلم أن الله بنزل من السماء ماء فتصبح الأرض، وهو مثل قول الشاعر: ألم تسأل الربع القديم فينطق فهل تخبرنك اليوم بيداء سملق؟ وقال سيبويه: "وسألت الخليل عن {ألم تر} فقال: هذا واجب وهو تنبيه، كأنك قلت: أتسمع؟ أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا" ثم ذكر البيت السابق، والبيت لجميل صاحب بثينة، والسملق: الأرض السهلة المستوية التي لا تنبت. ا هـ.
[8425]:لأنك إذا أجبت النفي بالفاء كان على معنيين ينتفي الجواب في كل منهما: إذا قلت:ما تأتينا فتحدثنا بالنصب فالمعنى: ما تأتينا محدثا، إنما يأتي ولا يحدث، ويجوز أن يكون المعنى: إنك لا تأتي فكيف = تحدث؟ فالحديث منتف في الحالتين، والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب، يثبت ما دخلته الهمزة وينتفي الجواب، فيلزم من هذا الذي تقرر إثبات الرؤية في الآية ونفي الاخضرار، وهو خلاف المقصود. هذا هو المراد بقوله: "فاسد المعنى". وأيضا قالوا: إن جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام السابق شرط وجزاء، ولا يصح في الآية هنا أن يتقدر أن ترى إنزال المطر فتصبح الأرض مخضرة، لأن الاخضرار ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك، إنما هو مترتب على إنزال المطر. قال ذلك الفراء.
[8426]:إدا جعلنا [فتصبح] بمعنى: (فتصير) لا يلزم أن يكون الاخضرار في وقت الصباح، وقد خص الله تعالى وقت الصباح بالذكر دون سائر أوقات النهار لأن رؤية الأشياء المحبوبة في أول النهار أبهج للعين وأسر للنفس.
[8427]:قال في البحر المحيط: "على وزن مسبعة".