ثم انتقل - سبحانه - من الحديث عن مظاهر نعمه عليهم ، فى حال سوق السفن ودفعها بهم فى البحر برفق وأناة ، إلى بيان رعايته لهم فى حال اضطرابها وتعرضها للغرق ، بسبب هيجان البحر وارتفاع أمواجه ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ . . . } .
والمس : اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإِحساس والإِصابة ، والمراد به هنا : ما يعتريهم من خوف وفزع ، وهم يرون سفينتهم توشك على الغرق .
والمراد بالضر هنا : اضطراب الفلك ، وارتفاع الأمواج ، واشتداد العواصف ، وتعرضهم للموت من كل مكان .
المعنى : وإذا أحاطت بكم الأمواج من كل جانب وأنتم على ظهور سفنكم وأوشكتم على الغرق . . ذهب وغاب عن خواطركم وأذهانكم ، كل معبود سوى الله - عز وجل - لكى ينقذكم مما أنتم فيه من بلاء ، بل إياه وحده - سبحانه - تدعون ليكشف عنكم ما نزل بكم من سوء .
فالجملة الكريمة تصوير مؤثر بديع لبيان أن الإِنسان عند الشدائد والمحن لا يتجه بدعائه وضراعته إلا إلى الله - تعالى - وحده .
قال القرطبى : " { ضل } معناه ؛ تَلِف وفُقد وهى عبارة عن تحقير لمن يدعى إلهًا من دون الله .
والمعنى فى هذه الآية : أن الكفار إنما يعتقدون فى أصنامهم أنها شافعة ، وأن لها فضلاً ، وكل واحد منهم بالفطرة يعلم علمًا لا يقدر على مدافعته أن الأصنام لا فعل لها فى الشدائد ، فوقَّفهم الله من ذلك على حالة البحر حيث تنقطع الحيل " .
وقال الإِمام ابن كثير : " يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ، ولهذا قال - تعالى - : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } أى : ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله - تعالى - كما اتفق لعكرمة بن أبى جهل ، لما ذهب فارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ، فذهب هاربًا فركب فى البحر ليدخل الحبشة ، فجاءتهم ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغنى عنكم إلا أن تدعو الله وحده .
فقال عكرمة فى نفسه : والله إن كان لا ينفع فى البحر غيره ، فإنه لا ينفع فى البر غيره ، اللهم لك على عهد لئن أخرجتنى منه ، لأذهبن فلأضعن يدى فى يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رءوفًا رحيمًا . فخرجوا من البحر ، فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه - رضى الله عنه " .
وقوله - تعالى - : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } بيان لطبيعة الإِنسان إلا من عصم الله .
أى : فلما نجاكم الله - تعالى - بلطفه وإحسانه : من الغرق ، وأوصلكم سالمين إلى البر ، أعرضتم عن طاعته ، وتركتم دعاءه والضراعة إليه ، وكان الإِنسان الفاسق عن أمر ربه ، { كفورا } أى : كثير الكفران والجحود لنعم ربه - عز وجل - .
قال الألوسى ما ملخصه : " وقوله : { وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } كالتعليل للإِعراض ، ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين ، وفيه لطافة حيث أعرض - سبحانه - عن خطابهم بخصوصهم ، وذكر أن جنس الإِنسان مجبول على الكفران ، فلما أعرضوا أعرض الله - تعالى - عنهم " .
وفى معنى هذه الآية جاءت آيات كثيرة . منها قوله - تعالى - { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } وقوله - سبحانه - : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله ، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه : ( ضل من تدعون إلا إياه ) . .
ولكن الإنسان هو الإنسان ، فما إن تنجلي الغمرة ، وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة ، فينسى الله ، وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات ، وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر : ( فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ) إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
يخبر تعالى أنه إذا مس الناس ضرّ ، دعوه منيبين إليه ، مخلصين له الدين ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } أي : ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله ، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ، فذهب هاربًا ، فركب في البحر ليدخل الحبشة ، فجاءتهم{[17661]} ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده . فقال عكرمة في نفسه : والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك عليّ عهد ، لئن أخرجتني منه لأذهبن فَأضعن{[17662]} يدي في يديه{[17663]} ، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا . فخرجوا من البحر ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن{[17664]} إسلامه ، رضي الله عنه وأرضاه .
وقوله : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } أي : نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر ، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له .
{ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } أي : سَجِيَّتُه هذا ، ينسى النعم ويجحدها ، إلا من عصم الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا مَسّكُمُ الْضّرّ فِي الْبَحْرِ ضَلّ مَن تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً } .
يقول تعالى ذكره : وإذا نالتكم الشدّة والجهد في البحر ضلّ من تدعون : يقول : فقد تمّ من تدعون من دون الله من الأنداد والاَلهة ، وجار عن طريقكم فلم يغثكم ، ولم تجدوا غير الله مغيثا يغيثكم دعوتموه ، فلما دعوتموه وأغاثكم ، وأجاب دعاءكم ونجاكم من هول ما كنتم فيه في البحر ، أعرضتم عما دعاكم إليه ربكم من خلع الأنداد ، والبراءة من الاَلهة ، وإفراده بالألوهة كفرا منكم بنعمته وكانَ الإنْسانُ كَفُورا يقول : وكان الإنسان إذا جحد لنعم ربه .
{ وإذا مسّكم الضّر في البحر } خوف الغرق . { ضلّ من تدعون } ذهب عن خواطركم كل من تدعونه في حوادثكم . { إلا إياه } وحده فإنكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه فلا تدعون لكشفه إلا إياه ، أو ضل كل من تعبدونه عن إغاثتكم إلا الله . { فلما نجّاكم } من الغرق . { إلى البرّ أعرضتم } عن التوحيد . وقيل اتسعتم في كفران النعمة كقول ذي الرمة :
بعد أن ألزمهم الحجة على حق إلهية الله تعالى بما هو من خصائص صنعه باعترافهم ، أعقبه بدليل آخر من أحوالهم المتضمنة إقرارهم بانفراده بالتصرف ثم بالتعجيب من مناقضة أنفسهم عند زوال اضطرارهم .
فجملة { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } خبر مستعمل في التقرير وإلزام الحجة إذ لا يخبر أحد عن فعله إخباراً حقيقياً .
وجملة { فلما نجاكم إلى البر أعرضتم } خبر مستعمل في التعجيب والتوبيخ .
وضر البحر : هو الإشراف على الغرق ؛ لأنه يزعج النفوس خوفاً ، فهو ضر لها . و { ضل } بضاد ساقطة فعل من الضلال ، وهو سلوك طريق غير موصلة للمقصود خطأ .
والعدول إلى الموصولية لِما تؤذن به الصلة من عمل اللسان ليتأتى الإيجاز ، أي من يتكرر دعاؤكم إياهم ، كما يدل عليه المضارع . فالمعنى غاب وانصرف ذكر الذين عادتكم دعاؤهم عن ألسنتكم فلا تدعونهم ، وذلك بقرينة ذكر الدعاء هنا الذي متعلقه اللسان ، فتعين أن ضلالهم هو ضلال ذكر أسمائهم ، وهذا إيجاز بديع .
والاستثناء من عموم الموصول ، لأن اسم الله مما يجري على ألسنتهم في الدعاء تارة كما تجري أسماء الأصنام ، فالاستثناء متصل .
ويجوز أن يكون اسم الموصول في قوله : { من تدعون } خاصاً بأصنامهم لأنهم يكثر دعاؤهم إياها دون اسم الله تعالى ، كما هو مقتضى التجدد فإذا اشتد بهم الضر دعوا الله كما قال تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } [ العنكبوت : 65 ] . ويكون الاستثناء منقطعاً . ونصب المستثنى لا يختلف في الوجهين جرياً على اللغة الفصحى . ولعل هذا الوجه أرجح لأنه أنسب بقوله : { أعرضتم } .
والإعراض : الترك ، أي تركتم دعاء الله ، بقرينة الجمع بين مقتضى المضارع من إفادة التجدد وبين مقتضى الاستثناء من انحصار الدعاء في الكون باسمه تعالى .
وقوله : { إلى البر } عدي بحرف ( إلى ) لتضمين { نجاكم } معنى أبلغكم وأوصلكم .
وجملة { وكان الإنسان كفوراً } اعتراض وتذييل لزيادة التعجب منهم ومن أمثالهم . و « الكفور » صيغة مبالغة ، أي كثير الكفر . والكفر ضد الشكر .
والتعريف في { الإنسان } تعريف الجنس وهو مفيد للاستغراق . فهذا الاستغراق يجوز أن يكون استغراقاً عرفياً بحمله على غالب نوع الإنسان ، وهم أهل الإشراك وهم أكثر الناس يومئذٍ ، فتكون صيغة المبالغة من قوله : { كفوراً } راجعة إلى قوة صفة الكفران أو عدم الشكر فإن أعلاه إشراك غير المنعم مع المنعم في نعمة لا حظ له فيها .
ويجوز أن يكون الاستغراق حقيقياً ، أي كان نوع الإنسان كفوراً ، أي غير خاللٍ من الكفران ، فتكون صيغة المبالغة راجعة إلى كثرة أحوال الكفران مع تفاوتها . وكثرة كفران الإنسان هي تكرر إعراضه عن الشكر في موضع الشكر ضلالاً أو سهواً أو غفلة لإسناده النعم إلى أسبابها المقارنة دون منعمها ولفرضه منعمين وهميين لا حظ لهم في الإنعام .
وذكر فعل ( كان ) إشارة إلى أن الكفران مستقر في جبلة هذا الإنسان ، لأن الإنسان قلما يشعر بما وراء عالم الحس فإن الحواس تشغله بمدركاتها عن التفكر فيما عدا ذلك من المعاني المستقرة في الحافظة والمستنبطة بالفكر .
ولما كان الشكر على النعمة متوقفاً على تذكر النعمة كانت شواغله عن تذكر النعم الماضية مغطية عليها ، ولأن مدركات الحواس منها الملائم للنفس وهو الغالب ، ومنها المنافر لها . فالإنسان إذا أدرك الملائم لم يشعر بقدره عنده لكثرة تكرره حتى صار عادة فذهل عما فيه من نفع ، فإذا أدرك المنافر استذكر فقدان الملائم فضج وضجر . وهو معنى قوله تعالى : { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] . ولهذا قال الحكماء : العافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى فهذا الاعتبار هو الذي أشارت له هذه الآية مع التي بعدها وهي { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر } [ الإسراء : 68 ] الآية . ومن أجل ذلك كان من آداب النفس في الشريعة تذكيرها بنعم الله ، قال تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ليقوم ذكر النعمة مقام معاهدتها .