نفى - سبحانه - المساواة بين هؤلاء الذين يخشون ربهم ، وبين غيرهم ممن قست قلوبهم ، وانحرفت نفوسهم عن الحق ، فقال - تعالى - : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } : والاستفهام : للنفى والإِنكار ، و " من " اسم موصول مبتدأ ، والخبر محذوف . أى : أفمن كان يوم القيامة مصيره إلى النار التى يتقيها ويحاول درأها عن نفسه بوجهه الذى هو أشرف أعضائه ، كمن يأتى يوم القيامة آمنا مطمئنا بعيدا عن النار وسعيرها ؟
وفى الآية الكريمة ما فيها من تهويل عذاب يوم القيامة ، إذ جرت عادة الإِنسان أن يتقى الآلام بيديه وجوارحه ، فإذا ما اتقاها بوجهه الذى هو أشرف أعضائه ، كان ذلك دليلا على أن ما نزل به فى نهاية الفظاعة والشدة .
وفى قوله - تعالى - : { سواء العذاب } مبالغة أخرى ، إذ نفس العذاب سوء ، فإذا ما وصف بعد ذلك بالسوء ، كان أشد فى الفظاعة والإِهانة والألم .
وجملة : { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ . . . } عطف على من " يتقى . . . " أى : هذا هو مصير الظالمين ، إنهم يتقون النار بوجوههم التى هى أشرف أعضائهم ، وهذا الاتقاء لن يفيدهم شيئا ، بل ستغشاهم النار بلهبها ، ويقال لهم : ذوقوا العذاب الأليم بسبب ما كنتم تكسبون فى الدنيا من أقوال باطلة ، وأفعال قبيحة .
ثم يعرض ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال !
( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? وقيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ) . .
والإنسان يقي وجهه عادة بيديه وجسمه . فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه ، فيدفعها بوجهه ، ويتقي به سوء العذاب . مما يدل على الهول والشدة والاضطراب . وفي زحمة هذا العذاب يتلقى التأنيب ، وتدفع إليه حصيلة حياته ويا لها من حصيلة : ( وقيل للظالمين : ذوقوا ما كنتم تكسبون ) !
يقول تعالى : { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، ويُقرعُ فيقال له ولأمثاله من الظالمين : { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } ، كمن يأتي آمنا يوم القيامة ؟ ! كما قال تعالى : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ، وقال : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [ القمر : 48 ] ، وقال تعالى { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ فصلت : 40 ] ، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر ، كقول الشاعر .
فَمَا أدْري إذَا يَمَّمْتُ أرْضًا *** أريدُ الخيرَ : أيّهما يَليني ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوَءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
اختلف أهل التأويل في صفة اتقاء هذا الضالّ بوجهه سُوء العذاب ، فقال بعضهم : هو أن يُرْمَى به في جهنم مكبوبا على وجهه ، فذلك اتقاؤه إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أَفَمَنْ يَتّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذَابِ قال : يَخِرّ على وجهه في النار ، يقول : هو مثل أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النّارِ خَيْرٌ أمْ مَنْ يَأتِي آمنا يَوْمَ القِيامَةِ ؟ .
وقال آخرون : هو أن ينطلق به إلى النار مكتوفا ، ثم يرمَى به فيها ، فأوّل ما تمسّ النار وجهه وهذا قول يُذكر عن ابن عباس من وجه كرهت أن أذكره لضعف سنده وهذا أيضا مما ترك جوابه استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه عنه . ومعنى الكلام : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة خير ، أم من ينعم في الجنان ؟ .
وقوله : وَقِيلَ للظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يقول : ويقال يومئذٍ للظالمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله . ذوقوا اليوم أيها القوم وَبالَ ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله .
{ أفمن يتقي بوجهه } يجعله درقة يقي به نفسه لأنه يكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يقدر أن يتقي إلا بوجهه { سوء العذاب يوم القيامة } كمن هو آمن منه ، فحذف الخبر كما حذف في نظائره . { وقيل للظالمين } أي لهم فوضع الظاهر موضعه تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالموجب لما يقال لهم وهو : { ذوقوا ما كنتم تكسبون } أي وباله ، والواو للحال وقد مقدرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.