{ وَلَهُ الكبريآء } أي : العظمة والسلطان والجلال { فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } .
قال ابن كثير : أي : هو العظيم المجد الذي كل شيء خاضع لديه ، فقير إليه . وفي الحديث الصحيح يقول الله - تعالى - : " العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدا منها أسكنته ناري " .
{ وَهُوَ العزيز } أي : الذي لا يغالب ولا يمانع ، { الحكيم } في أقواله وأفعاله .
وبعد فهذا تفسير محرر لسورة " الجاثية " نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده .
ثم قال : { وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السمواتِ وَالأرْضِ } قال مجاهد : يعني السلطان . أي : هو العظيم الممجد ، الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه . وقد ورد في الحديث الصحيح : " يقول الله تعالى {[26370]} العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني واحدًا منهما أسكنته ناري " . ورواه مسلم من حديث الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه {[26371]} .
وقوله : { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي : الذي لا يغالب ولا يمانع ، { الحكيم } في أقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، تعالى وتقدس ، لا إله إلا هو{[26372]} .
آخر تفسير سورة الجاثية [ ولله الحمد والمنة ]{[26373]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وله الكبرياء} يعني العظمة والسلطان والقوة والقدرة في السماوات والأرض.
{وهو العزيز} في ملكه، {الحكيم} في أمره الذي حكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وله الكبرياء في السموات والأرض" يقول: وله العظمة والسلطان في السموات والأرض دون ما سواه من الالهة والأنداد.
"وَهُوَ العَزِيزُ" في نقمته من أعدائه، القاهر كل ما دونه، ولا يقهره شيء.
"الحَكِيمُ" في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما شاء كيف شاء، والله أعلم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أي وله الوصف بالكبرياء والعظمة، وعلى أهل السماوات وأهل الأرض أن يصفوه بالكبرياء والعظمة.
والثاني: من حقه على أهل السماوات وأهل الأرض أن يصِفوه بالكبرياء والعظمة والجلال، والله أعلم.
{وهو العزيز الحكيم} أي هو العزيز الذي لا يلحقه الذّل بخلاف الخلق ولا بعصيانهم، أو هو العزيز بما به يتعزّز من اعتزّ دونه ومن وُصف بعزٍّ دونه، فذلك راجع في الحقيقة إليه..
{الحكيم} الذي وضع كل شيء موضعه، أو {الحكيم} الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير. والله الموفّق.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكبروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته {فِي السماوات والأرض} وحق مثله أن يكبر ويعظم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الكبرياء} بناء مبالغة، وفي الحديث: (يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني منهما شيئاً قصمته).
{وله الكبرياء في السموات والأرض} وهذا مشعر بأمرين:
أحدهما: أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد، والإشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يعرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقا بإنعامه، بل هو أكبر من حمد الحامدين، وأياديه أعلى وأجل من شكر الشاكرين.
والثاني: أن هذا الكبرياء له لا لغيره، لأن واجب الوجود لذاته ليس إلا هو...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفوء له، عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به؛ لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا- يرضونها لأنفسهم فقال: {وله} أي وحده {الكبرياء} أي الكبر الأعظم الذي لا نهاية له: {في السماوات} كلها {والأرض} جميعها اللتين فيهما آيات للمؤمنين.
(وهو} وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات، وفواصل وغايات، بعد أن حرر معانيه وتنزيله جواباً لما كانوا يعتنون به، فصار معجزاً في نظمه ومعناه وإنزاله طبق أجوبة الوقائع على ما اقتضاه الحال، فانطبق آخرها على أولها بالصفتين المذكورتين، وبالحث على الاعتبار بآيات الخافقين، والتصريح بما لزم ذلك من الكبرياء المقتضية لإذلال الأعداء وإعزاز الأولياء -والله الهادي إلى الصواب وإليه المرجع والمآب- والله أعلم بمراده.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال ومحبته تعالى وإكرامه، والكبرياء فيها عظمته وجلاله، والعبادة مبنية على ركنين، محبة الله والذل له، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ينطلق صوت التمجيد. يعلن الكبرياء المطلقة لله في هذا الوجود. حيث يتصاغر كل كبير. وينحني كل جبار. ويستسلم كل متمرد. للكبرياء المطلقة في هذا الوجود. ومع الكبرياء والربوبية العزة القادرة والحكمة المدبرة.. (وهو العزيز الحكيم).. والحمد لله رب العالمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عقب ذلك بجملة {وله الكبرياء في السموات والأرض} للإشارة إلى أن استدعاءه خلقَه لحمده إنما هو لنفعهم وتزكية نفوسهم، فإنه غني عنهم كما قال: {وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمونِ} [الذاريات: 56، 57]...
والكبرياء: الكبر الحق الذي هو كمال الصفات وكمال الوجود، ثم أتبع ذلك بصفتي {العزيز الحكيم} لأن العزة تشمل معاني القدرة والاختيارِ، والحكمةَ تجمع معاني تمام العلم وعمومه...
وهذه حيثية أخرى لوجوب الحمد لله، أنْ يتصف سبحانه بصفة الكبرياء، والكبرياء هو العظمة والجلال والقهر، وأيضا الأسلوب هنا أسلوب قَصْر {وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ..} يعني: له وحده، وهذه من أعظم نِعَم الله علينا حتى لا نكون عبيداً لغيره.
فالله ما جعلك عبداً له إلا ليكفيك العبودية لغيره، ولولا هذا الكبرياء لله تعالى لكنّا عبيداً لكل ذي قوة ولكل مَنْ نحتاج إليه، حتى الحداد والنجار الذي يقضي لك مصلحة يمكن أنْ يستعبدك.
إذن: معنى {وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} كأنه يقول لك: اطئمن يا عبدي فلن تكون عبداً لغيري، فالعظمة والجلال والكبرياء لي وحدي وأنا لكم جميعاً، والخلق كلهم عيالي، وأحبُّهم إليَّ أرأفهم بعيالي...
والحديث القدسي يؤكد هذه الصفة لله تعالى وحده، فقال سبحانه في الحديث القدسي:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمَنْ نازعني واحداً منهما قذفتُه في النار".
لماذا؟ لأنه لم يخلق هذا الخَلْق ولا يُؤتمن عليه، لذلك الإنسان لا يتكبَّر على الخَلْق إلا إذا حُجبت نفسه عن استحضار كبرياء الحق سبحانه: إنما الذي يستحضر في نفسه دائماً كبرياء الله يستحي أنْ يتكبَّر، وأنْ ينازع ربَّه في هذه الصفة...
وقوله: {وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز هو الغالب الذي لا يُغلب، والحكيم هو الذي يضع الشيء في موضعه، فصفة الكبرياء لله تعالى لا تعني القهر والجبروت والفتونة بلا ضابط، بل هو أيضاً سبحانه حكيم يُصرِّف الأمور وفق حكمة مطلقة.
والمتأمل في سورة الجاثية يجد أنها بدأتْ بقول الله تعالى: {حـمۤ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية: 1-2] وختمتْ أيضاً بقوله تعالى: {وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وكأن السورة وُضعتْ بين قوسين من العزة والحكمة لله تعالى والكبرياء والحمد لله سبحانه، ومن العجيب أن الأحقاف بعدها بدأتْ أيضاً بقول الله تعالى: {حـمۤ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجاثية: 1-2].
فكأن الله تعالى يؤكد على هذه الصفات ويُرسِّخها في نفوس المؤمنين ليزيدهم اطمئناناً به سبحانه وبمنهجه.
وكأنه سبحانه يقول لهم: اطمئنوا، فالذي أنعم عليكم قديماً بأنْ أوجدكم من عدم وأحيا مادتكم بروح منه، ثم أمدَّكم بمقوِّمات الحياة واستبقائها وهداكم إليه بآياته التي تُحيي قلوبكم وتعطيكم الحياة الباقية يوم القيامة.
فهو سبحانه كما ضمن لكم الماضي يضمن لكم المستقبل، فنِعَمه لا تُسلب، وعطاؤه لا ينفد، لأن له الكبرياء في السماوات والأرض، فلا تُوجد قوة غيره سبحانه تنقض هذا الخير أو تمنعه عنكم.
والحق سبحانه وتعالى حينما يجمع بين صفتي العزة والحكمة إنما ليقول لنا: انتبهوا إذا أصابتكم أحداثٌ تناقض هذه العزة في مشوار الدعوة، فاعلموا أنها ما حدثتْ إلا لحكمة.
فقد يقول قائل مثلاً: إذا كان الله عزيزاً لا يغلب، فلماذا ترك رسوله لأهل الطائف يؤذونه ويسبُّونه ويقذفونه بالحجارة حتى أدموْا قدميه الشريفتين.
نقول: ابحثوا عن الحكمة، فمن الحكمة المرادة لله تعالى حين يعلو الشر أنْ يُمحص أهل الخير، وأنْ يُصفي قاعدة الإسلام بحيث لا يثبت عليه إلا الأشداء في العقيدة الثابتون على الحق، فلا يحيدون عنه، فعلى أكتاف هؤلاء سيُحمل الدين وتنتشر الدعوة، فلا بدَّ من التمحيص وتمييز المؤمنين من المنافقين...