وبعد أن أمر - سبحانه - بالصلاة وبالعبادة وبفعل الخير ، أتبع ذلك بالأمر بالجهاد فقال - تعالى - : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } .
والجهاد مأخوذ من الجهد ، وهو بذل أقصى الطاقة فى مدافعة العدو .
وهى أنواع ، أعظمها : جهاد أعداء الله - تعالى - من الكفار والمنافقين والظالمين والمبتدعين فى دين الله - تعالى - ما ليس منه .
كذلك من أنواع الجهاد : جهاد النفس الأمارة بالسوء ، وجهاد الشيطان .
وإضافة " حق " إلى " جهاد " فى قوله : { حَقَّ جِهَادِهِ } من إضافة الصفة التى إلى الموصوف أى : وجاهدوا - أيها المؤمنون - فى سبيل الله - تعالى - ومن أجل إعلاء كلمته ، ونصر شريعته ، جهادا كاملا صادقا لا تردد معه ولا تراجع .
قال صاحب الكشاف : قوله : { وَجَاهِدُوا . . . . } أمر بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى . وهو الجهاد الأكبر . عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه رجع من بعض غزواته فقال : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " { فِي الله } أى : فى ذات الله ومن أجله . يقال : هو حق عالم ، وجد عالم ، ومنه { حَقَّ جِهَادِهِ } .
فإن قلت : ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه ، أو حق جهادكم فيه ، كما قال : { وَجَاهِدُوا فِي الله } ؟
قلت : الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص . فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه . . .
وجملة " هو اجتباكم " مستأنفة ، لبيان علة الأمر بالجهاد ، والاجتباء : الاختيار والاصطفاء .
أى : جاهدوا - أيها المؤمنون - من أجل إعلاء كلمة الله ، لأنه - سبحانه - هو الذى اختاركم للذب عن دينه ، واصطفاكم لحرب أعدائه ، وجدير بمن اختاره الله واصطفاه أن يكون مطيعا له .
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر لطفه بعباده فقال : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } .
أى : ومن مظاهر رحمته بكم - أيها المؤمنون - أنه سبحانه لم يشرع فى هذا الدين الذى تدينون به ما فيه مشقة بكم ، أو ضيق عليكم : وإنما جعل أمر هذا الدين ، مبنى على اليسر والتخفيف ورفع الحرج ، ومن قواعده التى تدل على ذلك : أن الضرر يزال . وأن المشقة تجلب التيسير : وأن اليقين لا يرفع بالشك ، وأن الأمور تتبع مقاصدها ، وأن التوبة الصادقة النصوح تجب ما قبلها من ذنوب .
ومن الآيات التى تدل على أن هذا الدين مبنى على التيسير ورفع الحرج قوله - تعالى - : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . } وقوله - سبحانه - : { . . . يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر . . . } وفى الحديث الشريف : " بعثت بالحنيفية السمحاء " .
قال بعض العلماء : وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا ، بين المشقة فى الأحكام الشرعية ، وبين الحرج والعسر فيها ، فإن الأولى حاصلة وقلما يخلو منها تكليف شرعى ، إذ التكليف هو التزام ما فيه كلفة ومشقة ، أما المشقة الزائدة عن الحد التى تصل إلى حد الحرج ، فهى المرفوعة عن المكلفين .
فقد فرض الله الصلاة على المكلف ، وأوجب عليه أداءها ، وهذا شىء لا حرج فيه . ثم هو إذا لم يستطيع الصلاة من قيام ، فله أن يؤديها وهو قاعد أو بالإيماء . . . وهكذا جميع التكاليف الشرعية .
والخلاصة : أن هذا الدين الذى جاءنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه - عز وجل - مبنى على التخفيف والتيسير ، لا على الضيق والحرج ، والذين يجدون فيه ضيقا وحرجا ، هم الناكبون عن هديه ، الخارجون على تعالميه .
ورحم الله الإمام القرطبى فق قال : " رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع ، وأما السراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج ، وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين . . . " .
والمراد بالملة فى قوله - تعالى - : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } الدين والشريعة ، ولفظ " ملة " هنا منصوب بنزع الخافض .
أى : ما جعل عليكم - أيها المؤمنون - فى دينكم من حرج ، كما لم يجعل ذلك - أيضا - فى لمة أبيكم إبراهيم .
ويصح أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفى الحرج بعد حذف المصدر المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه . أى : وسع عليكم فى دينكم توسعة ملة إبيكم إبراهيم .
ووصف - سبحانه - إبراهيم - عليه السلام - بالأبوة لهذه الأمة ، لأن رسول هذه الأمة - صلى الله عليه وسلم - ينتهى نسبه إلى إبراهيم ، ورسول هذه الأمة - صلى الله عليه وسلم - كالأب لها ، من حيث أنه - صلى الله عليه وسلم - جاءها من عند ربه - عز وجل - بما يحييها ويسعدها .
والضمير " هو " فى قوله - تعالى - : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا . . . } يعود إلى الله - تعالى - أى : هو - سبحانه - الذى سماكم المسلمين من قبل نزول القرآن . وسماكم - أيضا - بهذا الإسم فى هذا القرآن .
وقيل : الضمير " هو " يعود إلى إبراهيم أى : إبراهيم هو الذى سماكم المسلمين .
ومن وجوه ضعف هذا القول : أن اللن - تعالى - قال : { وَفِي هذا } أى سماكم المسلمين فى هذا القرآن ، وإبراهيم - عليه السلام - لحق بربه قبل نزول هذا القرآن بآزمان طويلة ، وأيضا فإن السياق يؤيد أن الضمير " هو " يعود إلى الله - تعالى - لأن الأفعال السابقة كقوله { هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } تعود إليه - عز وجل - .
ثم بين - سبحانه - أسباب هذا الاجتباء والاصطفاء فقال : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } .
والمراد بشهادة الرسول على أمته : الإخبار بأنه قد بلغهم رسالة ربه .
والمراد بشهادة هذه الأمة على غيرها من الناس : الإخبار بأن الرسل الذين أرسلهم الله - تعالى - إلى هؤلاء الناس ، قد بلغوهم رسالة ربهم ، ونصحوهم بإخلاص العبادة لله وحده .
ويؤيد ذلك ما رواه البخارى عن أبى سعيد الخدرى قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يدعى نوح - عليه السلام - يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب . فيقا له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول : نعم . فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير . فيقال له : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، فيشهدون أنه قد بلغ " .
وشبيه بهذه الجملة قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } والمعنى : فعلنا ما فعلنا من اجتبائكم ، والتيسير عليكم ، وتسميتكم بالمسلمين ، ليكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أمر بتبليغه إليكم ، ولتكونوا أنتم شهداء على الناس بأن رسلهم قد بلغوهم رسالة ربهم .
وما دام الأمر كذلك { فَأَقِيمُواْ الصلاة } أيها المؤمنون بأن تؤدوها فى أوقاتها بإخلاص وخشوع { وَآتُواْ الزكاة } التى كلفكم الله - تعالى - بإيتائها إلى مستحقيها { واعتصموا بالله } أى : التجئوا إليه ، واستعينوا به فى كل أموركم فإنه - سبحانه - { هُوَ مَوْلاَكُمْ } أى : ناصركم ومتولى شئونكم ، ومالك أمركم ، وهو - تعالى - { نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } أى : هو - عز وجل - نعم المالك لأمركم ، ونعم النصير القوى لشأنكم .
وبعد : فهذه سورة الحج ، وهذا تفسير محرر لها .
( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . وهو تعبير شامل جامح دقيق ، يصور تكليفا ضخما ، يحتاج إلى تلك التعبئة وهذه الذخيرة وذلك الإعداد . .
( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . والجهاد في سبيل الله يشمل جهاد الأعداء ، وجهاد النفس ، وجهاد الشر والفساد . . كلها سواء . .
( وجاهدوا في الله حق جهاده ) . . فقد انتدبكم لهذه الأمانة الضخمة ، واختاركم لها من بين عباده : ( هو اجتباكم ) . . وإن هذا الاختيار ليضخم التبعة ، ولا يجعل هنالك مجالا للتخلي عنها أو الفرار ! وإنه لإكرام من الله لهذه الأمة ينبغي أن يقابل منها بالشكر وحسن الأداء !
وهو تكليف محفوف برحمة الله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . . وهذا الدين كله بتكاليفه وعباداته وشرائعه ملحوظ فيه فطرة الإنسان وطاقته . ملحوظ فيه تلبيته تلك الفطرة . وإطلاق هذه الطاقة ، والاتجاه بها إلى البناء والاستعلاء . فلا تبقى حبيسة كالبخار المكتوم . ولا تنطلق انطلاق الحيوان الغشيم !
وهو منهج عريق أصيل في ماضي البشرية ، موصول الماضي بالحاضر : ( ملة أبيكم إبراهيم )وهو منبع التوحيد الذي اتصلت حلقاته منذ عهد إبراهيم - عليه السلام - فلم تنقطع من الأرض ، ولم تفصل بينها فجوات مضيعة لمعالم العقيدة كالفجوات التي كانت بين الرسالات قبل إبراهيم عليه السلام .
وقد سمى الله هذه الأمة الموحدة بالمسلمين . سماها كذلك من قبل وسماها كذلك في القرآن : ( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) . .
والإسلام إسلام الوجه والقلب لله وحده بلا شريك . فكانت الأمة المسلمة ذات منهج واحد على تتابع الأجيال والرسل والرسالات . حتى انتهى بها المطاف إلى أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وحتى سلمت إليها الأمانة ، وعهد إليها بالوصاية على البشرية . فاتصل ماضيها بحاضرها بمستقبلها كما أرادها الله : ( ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) . . فالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يشهد على هذه الأمة ، ويحدد نهجها واتجاهها ، ويقرر صوابها وخطأها . وهي تشهد على الناس بمثل هذا ، فهي القوامة على البشرية بعد نبيها ؛ وهي الوصية على الناس بموازين شريعتها ، وتربيتها وفكرتها عن الكون والحياة . ولن تكون كذلك إلا وهي أمينة على منهجها العريق المتصل الوشائج ، المختار من الله .
ولقد ظلت هذه الأمة وصية على البشرية طالما استمسكت بذلك المنهج الإلهي وطبقته في حياتها الواقعية . حتى إذا انحرفت عنه ، وتخلت عن تكاليفه ، ردها الله عن مكان القيادة إلى مكان التابع في ذيل القافلة . وما تزال . ولن تزال حتى تعود إلى هذا الأمر الذي اجتباها له الله .
هذا الأمر يقتضي الاحتشاد له والاستعداد . . ومن ثم يأمرها القرآن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله :
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله . هو مولاكم . فنعم المولى ونعم المصير . .
فالصلاة صلة الفرد الضعيف الفاني بمصدر القوة والزاد . والزكاة صلة الجماعة بعضها ببعض والتأمين من الحاجة والفساد . والاعتصام بالله العروة الوثقى التي لا تنفصم بين المعبود والعباد .
بهذه العدة تملك الأمة المسلمة أن تنهض بتكاليف الوصاية على البشرية التي اجتباها لها الله . وتملك الانتفاع بالموارد والطاقات المادية التي تعارف الناس على أنها مصادر القوة في الأرض . والقرآن الكريم لا يغفل من شأنها ، بل يدعو إلى إعدادها . ولكن مع حشد القوى والطاقات والزاد الذي لا ينفد ، والذي لا يملكه إلا المؤمنون بالله .
فيوجهون به الحياة إلى الخير والصلاح والاستعلاء .
إن قيمة المنهج الإلهي للبشرية أنه يمضي بها قدما إلى الكمال المقدر لها في هذه الأرض ؛ ولا يكتفي بأن يقودها للذائذ والمتاع وحدهما كما تقاد الأنعام .
وإن القيم الإنسانية العليا لتعتمد على كفاية الحياة المادية ، ولكنها لا تقف عند هذه المدارج الأولى . وكذلك يريدها الإسلام في كنف الوصاية الرشيدة ، المستقيمة على منهج الله في ظل الله . .
وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } أي : بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] .
وقوله : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي : يا هذه الأمة ، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع .
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : ما كلفكم ما لا تطيقون ، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة - التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين - تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتُصَلى رجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها . وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها ، والقيام فيها يسقط بعذر المرض ، فيصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات ، في سائر الفرائض والواجبات ؛ ولهذا قال ، عليه السلام{[20422]} : " بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة " {[20423]} وقال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما أميرَين إلى اليمن : " بَشِّرا ولا تنفرا ، ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا " {[20424]} . والأحاديث في هذا كثيرة ؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني : من ضيق .
وقوله : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } : قال ابن جرير : نصب على تقدير : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : من ضيق ، بل وَسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم . [ قال : ويحتمل أنه منصوب على تقدير : الزموا ملة أبيكم إبراهيم ]{[20425]} .
قلت : وهذا المعنى في هذه الآية كقوله : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } الآية [ الأنعام : 161 ] .
وقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال الإمام عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } قال : الله عز وجل . وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } يعني : إبراهيم ، وذلك لقوله : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكََ } [ البقرة : 128 ] .
قال ابن جرير : وهذا لا وجه له ؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة في القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر ، { وَفِي هَذَا } يعني : القرآن . وكذا قال غيره .
قلت : وهذا هو الصواب ؛ لأنه تعالى قال : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان ، في كتب الأنبياء ، يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا القرآن { وَفِي هَذَا } ، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية :
أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شُعَيب ، أنبأنا معاوية بن سلام{[20426]} أن أخاه زيد بن سلام أخبره ، عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ جهنم " . قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وصلى ؟ قال : " نعم ، وإن صام وصلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله " {[20427]} .
وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } من سورة البقرة [ الآية : 21 ] ؛ ولهذا قال : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
أي : إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا{[20428]} خيارا ، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ، لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها{[20429]} على كل أمة سواها ؛ فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك . وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] ، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي : قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ، وطاعة ما أوجب ، وترك ما حرم . ومن أهم ذلك إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة ، وهو الإحسان إلى خلق الله ، بما أوجب ، للفقير على الغني ، من إخراج جزء نزر من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة " التوبة " {[20430]} .
وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } أي : اعتضدوا بالله{[20431]} ، واستعينوا به ، وتوكلوا{[20432]} عليه ، وتَأيَّدوا به ، { هُوَ مَوْلاكُمْ } أي : حافظكم وناصركم ومُظفركُم على أعدائكم ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } يعني : [ نعم ]{[20433]} الولي ونعم الناصر من الأعداء .
قال وُهَيْب بن الورد : يقول الله تعالى : ابن آدم ، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ ، فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظُلمتَ فاصبر ، وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك . رواه ابن أبي حاتم .
والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة ، والثناء الحسن والنعمة ، وأسأله التوفيق والعصمة ، في سائر الأفعال والأقوال .
هذا آخر تفسير سورة " الحج " ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم ، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين{[1]} .