ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك فقصت علينا ما كان بين شعيب - عليه السلام - وقومه وكيف أنه دعاهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده بأسلوب بليغ حكيم ، ولكنهم لم يستجيبوا له ، فكانت عاقبتهم الهلاك كالذين من قبلهم قال - تعالى - :
{ وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً . . . }
تلك هى قصة شعيب - عليه السلام - كما حكتها هذه السورة الكريمة ، وقد وردت هذه القصة فى سور أخرى منها : سورتى الأعراف والشعراء . .
ومدين اسم للقبيلة التى تنتسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - .
وكانوا يسكنون فى المنطقة التى تسمى ( معان ) وتقع بين حدود الحجاز والشام .
وأهل مدين يسمون أيضاً بأصحاب الأيكة .
والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية ( معان ) ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيباً إليهم جميعاً .
وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم ، فهو أخوهم فى النسب .
وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر شعيب قال : " ذلك خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته .
وكان قومه يعبدون الأصنام . ويطففون فى الكيل والميزان . . . فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق .
ويرى بعض العلماء : أن شعيباً أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة ؛ وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأن الله - تعالى - لم يبعث نبياً مرتين سوى شعيب - عليه السلام - .
ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة ، فأهل مدين هم أصحاب الأيكة ، أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة - أى السحابة - وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر .
هذا ، وقوله - سبحانه - { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً . . . } معطوف على ما سبقه من قصة صالح - عليه السلام - عطف القصة على القصة .
أى : وكما أرسلنا صالحاً - عليه السلام - إلى ثمود ، فقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً - عليه السلام - فقال لهم مقالة كل نبى لقومه : يا قوم اعبدوا الله وحده ، فإنكم لا إله لكم على الحقيقة سواه ، فهو الذى خلقكم ، وهو الذى رزقكم ، وهو الذى إليه مرجعكم . . .
ثم بعد أن أمرهم بإخلاص العبادة لله ، نهاهم عن التطفيف فى الكيل والميزان فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان }
والمكيال والميزان : اسمان للآلة التى يكال بها ويوزن .
ونقص الكيل والميزان يكون من وجهين : أحدهما أن يكون الاستنقاص من جهتهم إذا باعوا لغيرهم .
وثانيهما : أن يكون الاستنقاص من جهة غيرهم إذا اشتروا منه ، بأن يأخذوا منه أكثر من حقهم .
فكأنه - عليه السلام - يقول لهم : لا تنقصوا المكيال والميزان لا عند الأخذ ولا عند الإعطاء ، فلا تعطوا غيركم أقل من حقه إذا بعتم ، ولا تأخذوا منه أكثر من حقكم إذا اشتريتم .
وإلى هذين الأمرين أشار قوله - تعالى - { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . . . } ثم بين لهم الأسباب التى دعته إلى أمرهم ونهيهم فقال : { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } .
والخير : كلمة جامعة لكل ما يرضى الإِنسان ويغنيه ويسره .
ومحيط : أى شامل بحيث لا يستطيع أحد الإِفلات منه . كما يحيط الظرف بالمظروف . . .
أى : أخلصوا لله عبادتكم ، والتزموا العدل فى معاملاتكم ، فإنى أراكم تملكون الوفير من المال ، وتعيشون فى رغد من العيش ، وفى بسطة من الرزق ، ومن كان كذلك فمن الواجب عليه أن يقابل هذه النعم بالشكر لواهبها وهو الله - تعالى - وأن يستعملها استعمالاً يرضيه ، وأن يعطى كل ذى حق حقه .
وإنى - أيضاً - أخاف عليكم إذا ما تماديتم فى مخالففة ما آمركم به وما أنهاكم عنه ، عذاب يوم أهواله وآلامه شاملة لكل ظالم ، بحيث لا يستطيع أن يهرب منها . . .
قال الشوكانى : وصف - سبحانه - اليوم بالإِحاطة ، والمراد العذاب لأن العذاب واقع فى اليوم ، ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم ، أنهم لا يشذ منهم أحد عنه ، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهربا .
فأنت ترى أن شعيباً - عليه السلام - بعد أن أمرهم بما يصلح عقيدتهم ونهاهم عما يفسد معاملاتهم وأخلاقهم . . ذكرهم بما هم فيه من نعمة وغنى قطعاً لعذرهم حتى لا يقولوا له نحن فى حاجة إلى تطفيف المكيال والميزان لفقرنا ، ثم أخبرهم بأنه ما حمله على هذا النصح لهم إلا خوفه عليهم .
( وإلى مدين أخاهم شعيبا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . ) .
إنها الدينونة لله وحده قاعدة العقيدة الأولى . وقاعدة الحياة الأولى . وقاعدة الشريعة الأولى . وقاعدة المعاملات الأولى . . القاعدة التي لا تقوم بغيرها عقيدة ولا عبادة ولا معاملة . .
( ولا تنقصوا المكيال والميزان ، إني أراكم بخير ، وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين . وما أنا عليكم بحفيظ ) . .
والقضية هنا هي قضية الأمانة والعدالة - بعد قضية العقيدة والدينونة - أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة . . فقد كان أهل مدين - وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز إلى الشام - ينقصون المكيال والميزان ، ويبخسون الناس أشياءهم ، أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات . وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد ، كما تمس المروءة والشرف . كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون أن يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة الآيبة بين شمال الجزيرة وجنوبها . ويتحكموا في طرق القوافل ويفرضوا ما يشاءون من المعاملات الجائزة التي وصفها الله في هذه السورة .
ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالأمانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء ، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الأفراد أم قامت بها الدول . فهي بذلك ضمانة لحياة إنسانية أفضل ، وضمانة للعدل والسلام في الأرض بين الناس . وهي الضمانة الوحيدة التي تستند إلى الخوف من الله وطلب رضاه ، فتستند إلى أصل ثابت ، لا يتأرجح مع المصالح والأهواء . .
إن المعاملات والأخلاق لا بد أن تستند إلى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل متقلبة . . هذه هي نظرة الإسلام . وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والأخلاقية التي ترتكن إلى تفكيرات البشر وتصوراتهم وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم !
وهي حين تستند إلى ذلك الأصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة ؛ كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها .
فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الأخلاقية هو كونهم يعيشون على الزراعة أو يعيشون على الرعي أو يعيشون على الصناعة . . إن هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الأخلاقي وفي قواعد المعاملات الأخلاقية ، حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة الله ؛ وحين تصبح قاعدة الأخلاق هي إرضاء الله وانتظار ثوابه وتوقي عقابه ، وكل ما يهرف به أصحاب المذاهب الوضيعة من تبعية الأخلاق للعلاقات الاقتصادية وللطور الاجتماعي للأمة يصبح لغوا في ظل النظرة الأخلاقية الإسلامية !
( ولا تنقصوا المكيال والميزان . إني أراكم بخير ) . .
فقد رزقكم الله رزقا حسنا ، فلستم في حاجة إلى هذه الدناءة لتزيدوا غنى ، ولن يفقركم أو يضركم أن لا تنقصوا المكيال والميزان . . بل إن هذا الخير ليهدده ما أنتم عليه من غش في المعاملة ، أو غصب في الأخذ والعطاء .
( وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) . .
إما في الآخرة عند الله . وإما في هذه الأرض حين يؤتي هذا الغش والغصب ثمارهما المرة في حالة المجتمع وفي حركة التجارة . وحين يذوق الناس بعضهم بأس بعض ، في كل حركة من الحركات اليومية وفي كل تعامل وفي كل احتكاك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنّيَ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مّحِيطٍ } .
يقول تعالى ذكره : وَ أرسلنا إلى ولد مَدْيَنَ أخاهُمْ شُعَيْبا ، فلما أتاهم ، قالَ : { يا قَوْمِ اعْبُدوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غيرُهُ } . يقول : أطيعوه ، وتَذَللّوا له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه ، ما لَكُمْ مِنْ إلهٍ غَيْرُهُ . يقول : ما لكم من معبود سواه يستحق عليكم العبادة غيره . { وَلا تَنْقصُوا المِكْيالَ والمِيزانَ } . يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم ، إنّي أرَاكمْ بِخَيْرٍ .
واختلف أهل التأويل في الخير الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين : إنه يراهم به ؛ فقال بعضهم : كان ذلك رُخْص السعر وحذرهم غَلاءه . ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا عبد الله بن داود الواسطي ، قال : حدثنا محمد بن موسى ، عن الذيال بن عمرو ، عن ابن عباس : إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ ، قال : رُخْص السعر . { وإنّي أخافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } ، قال : غلاء سعر .
حدثني أحمد بن عليّ النصري ، قال : ثني عبد الصمد بن عبد الوراث ، قال : حدثنا صالح بن رستم ، عن الحسن ، وذكر قوم شعيب ، قال : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، قال : رُخْص السعر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن أبي عامر الخراز ، عن الحسن ، في قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، قال : الغنى ورُخْص السعر .
وقال آخرون : عنى بذلك : إني أرى لكم مالاً وزينة من زين الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْر } ، قال : يعني : خير الدنيا وزينتها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } : أبصر عليهم قِشْرا من قِشْر الدنيا وزينتها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، قال : في دنياكم ، كما قال الله تعالى : إنْ تَرَكَ خَيْرا سماه خيرا ؛ لأن الناس يسمون الماء خيرا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه ، وذلك قوله : { إنّي أرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ، يعني : بخير الدنيا . وقد يدخل في خير الدنيا : المال وزينة الحياة الدنيا ورخص السعر ، ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك : بعض خيرات الدنيا دون بعض ، فذلك على كلّ معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها . وإنما قال ذلك شعيب ، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من أسعارهم كثيرة أموالهم ، فقال لهم : لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم وموازينكم ، فقد وسّع الله عليكم رزقكم ، وَإنّي أخافُ عَليكُم بمخالفتكم أمر الله وبخسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم عذابَ يومٍ مُحيطٍ . يقول : أن ينزل بكم عذاب يوم محيط بكم عذابه . فجعل المحيط نعتا لليوم ، وهو من نعت العذاب ، إذ كان مفهوما معناه ، وكان العذاب في اليوم ، فصار كقولهم جُبّتك محترقة .
التقدير : { وإلى مدين } أرسلنا { أخاهم شعيباً } ، واختلف في لفظة { مدين } فقيل : هي بقعة ، فالتقدير على هذا : وإلى أهل مدين - كما قال : { واسأل القرية }{[6466]} - وقيل كان هذا القطر في ناحية الشام ، وقيل { مدين } اسم رجل كانت القبيلة من ولده فسميت باسمه ، و { مدين } لا ينصرف في الوجهين ، حكى النقاش أن { مدين } هو ولد إبراهيم الخليل لصلبه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد وقد قيل : إن { شعيباً } عربي ، فكيف يجتمع هذا وليس للعرب اتصال بإبراهيم إلا من جهة إسماعيل فقط ، ودعاء «شعيب » إلى «عبادة الله » يقتضي أنهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك بين من قولهم فيما بعد ، وكفرهم هو الذي استوجبوا به العذاب لا معاصيهم ، فإن الله لم يعذب قط أمة إلا بالكفر ، فإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة ، وأعني بالعذاب عذاب الاستئصال العام ، وكانت معصية هذه الأمة الشنيعة أنهم كانوا تواطأوا أن يأخذوا ممن يرد عليهم من غيرهم وافياً ويعطوا ناقصاً في وزنهم وكيلهم ، فنهاهم شعيب بوحي الله تعالى عن ذلك ، ويظهر من كتاب الزجاج أنهم كانوا تراضوا بينهم بأن يبخس بعضهم بعضاً .
وقوله { بخير } قال ابن عباس : معناه في رخص من الأسعار ، و { عذاب اليوم المحيط } هو حلول الغلاء المهلك . وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق »{[6467]} وقيل لهم قوله : { بخير } عام في جميع نعم الله تعالى ، و { عذاب اليوم } هو الهلاك الذي حل بهم في آخر ، وجميع ما قيل في لفظ «خير » منحصر فيما قلناه .
ووصف «اليوم » ب «الإحاطة » وهي من صفة العذاب على جهة التجوز إذ كان العذاب في اليوم : وقد يصح أن يوصف «اليوم » ب «الإحاطة » على تقدير : محيط شره . ونحو هذا .