{ قَالُواْ ياأبانآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أى : نتسابق عن طريق الرمى بالسهام ، أو على الخيل ، أو على الأقدام . يقال : فلان وفلان استبقا أى : تسابقا حتى ينظر أيها يسبق الآخر .
{ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } أى : عند الأشياء التي نتمتع بها وننتفع في رحلتنا ، كالثياب والأطعمة ، وما يشبه ذلك .
{ فَأَكَلَهُ الذئب } في تلك الفترة التي تركناه فيها عند متاعنا .
والمراد : قتله الذئب ، ثم أكله دون أن يبقى منه شيئا ندفنه .
{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أى : وما أنت بمصدق لنا فيما أخبرناك به من أن يوسف قد أكله الذئب ، حتى ولو كنا صادقين في ذلك ، لسوء ظنك بنا ، وشدة محبتك له .
وهذه الجملة الكريمة توحى بكذبهم على أبيهم ، وبمخادعتهم له ، ويكاد المريب أن يقول خذونى - كما يقولون - .
( قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق ، وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . وجاءوا على قميصه بدم كذب ، قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ) . .
لقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذبة ، فلو كانوا أهدأ أعصابا ما فعلوها منذ المرة الأولى التي يأذن لهم فيها يعقوب باصطحاب يوسف معهم ! ولكنهم كانوا معجلين لا يصبرون ، يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى . كذلك كان التقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا على التسرع ، وقد كان أبوهم يحذرهم منها أمس ،
وهم ينفونها ، ويكادون يتهكمون بها . فلم يكن من المستساغ أن يذهبوا في الصباح ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس ! وبمثل هذا التسرع جاءوا على قميصه بدم كذب لطخوه به في غير إتقان ، فكان ظاهر الكذب حتى ليوصف بأنه كذب . .
وجاءوا أباهم عشاء يبكون ، قالوا : يا أبانا ، إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب . .
ويحسون أنها مكشوفة ، ويكاد المريب أن يقول خذوني ، فيقولون :
( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) . .
أي وما أنت بمطمئن لما نقوله ، ولو كان هو الصدق ، لأنك تشك فينا ولا تطمئن لما نقول .
{ وَجَآءُوَا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُواْ يَأَبَانَا إِنّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ } .
يقول جلّ ثناؤه : وجاء إخوة يوسف أباهم ، بعد ما ألقوا يوسف في غيابة الجبّ ، { عِشاءً يَبْكُونَ } . وقيل : إن معنى قوله : { نَسْتَبِقُ } : ننتضل من السباق . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أقبلوا على أبيهم عشاء يبكون . فلما سمع أصواتهم ، فزع ، وقال : ما لكم يا بنيّ ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا ، قال : فما فعل يوسف ؟ قالوا : { يا أبانا إنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فأكَلَهُ الذَئْبُ } ، فبكى الشيخ ، وصاح بأعلى صوته ، وقال : أين القميص ؟ فجاءوه بالقميص عليه دم كذب ، فأخذ القميص ، فطرحه على وجهه ، ثم بكى حتى تخضب وجهه من دم القميص .
وقوله : { وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا } ، يقولون : وما أنت بمصدّقنا على قيلنا : إن يوسف أكله الذئب ، { وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ } . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ : { وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ } ، لَنا قال : بمصدّق لنا . . . { وَلَوْ كُنّا صَادِقِينَ } ، إما خبر عنهم أنهم غير صادقين ، فذلك تكذيب منهم أنفسهم ، أو خبر منهم عن أبيهم أنه لا يصدقهم لو صدَقوه ، فقد علمت أنهم لو صَدقوا أباهم الخبر صَدّقهم ؟ قيل : ليس معنى ذلك بواحد منهما ، وإنما معنى ذلك : وما أنت بمصدّق لنا ولو كنا من أهل الصدق الذين لا يتهمون لسوء ظنك بنا وتهمتك لنا .
وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال : ما بالكم أجرى في الغنم شيء ؟ قالوا : لا ، قال فأين يوسف ؟ قالوا : { ذهبنا نستبق } ؛ فبكى وصاح وقال : أين قميصه ؟ - وسيأتي قصص ذلك .
و { نستبق } معناه : على الأقدام أي نجري غلاباً ، وقيل : بالرمي أي ننتضل . وهو نوع من المسابقة ، قاله الزجاج .
وقولهم : { وما أنت بمؤمن } أي بمصدق ؛ ومعنى الكلام : أي لو كنا موصوفين بالصدق ؛ وقيل المعنى : ولو كنت تعتقد ذلك فينا في جميع أقوالنا قديماً لما صدقتنا في هذه النازلة خاصة لما لحقك فيها من الحزن ونالك من المشقة ولما تقدم من تهمتك لنا .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ذكره الزجاج وغيره ، ويحتمل أن يكون قولهم : { ولو كنا صادقين } ، بمعنى : وإن كنا صادقين - وقاله المبرد - كأنهم أخبروا عن أنفسهم أنهم صادقون في هذه النازلة فهو تمادٍ منهم في الكذب ويكون بمنزلة قوله : { أو لو كنا كارهين }{[6596]} بمعنى أو إن كنا كارهين .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا المثال عندي نظر ، وتخبط الرماني في هذا الموضع ، وقال : ألزموا أباهم عناداً ونحو هذا مما لا يلزم لأنهم لم يقولوا : وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين في معتقدك ، بل قالوا : وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين فيما نعتقد نحن ، وأما أنت فقد غلب عليك سوء الظن بنا . ولا ينكر أن يعتقد الأنبياء عليهم السلام صدق الكاذب وكذب الصادق ما لم يوح إليهم ، فإنما هو بشر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه . . » الحديث{[6597]} . فهذا يقتضي أنه جوز على نفسه أن يصدق الكاذب . وكذلك قد صدق عليه السلام عبد الله بن أبيّ حين حلف على مقالة زيد بن أرقم وكذب زيداً ، حتى نزل الوحي ، فظهر الحق{[6598]} ، فكلام اخوة يوسف إنما هو مغالطة ومحاجة لا إلزام عناد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.