ثم حكى - سبحانه - ما كان من الملائكة فقال :
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } .
سبحان : اسم مصدر بمعنى التسبيح ؛ أي التنزيه ، وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه .
وهذه الآية الكريمة واقعة موقع الجواب عن سؤال يخطر في ذهن السامع للجملة السابقة ، إذ الشأن أن يقال عند سماعهم قوله - تعالى - : { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء } ماذا كان من الملائكة ؟ هل أنبأوا بأسماء المسميات المعروضة عليهم ؟ فقال - تعالى - : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ } إلخ الآية .
ولو قال الملائكة : لا علم لنا بأسماء هذه المسميات لكان جوابهم على قدر السؤال ، ولكنهم قصدوا الاعتراف بالعجز معرفة أسماء تلك المسميات المعروضة على أبلف وجه فنفوا عن أنفسهم أن يعلموا شيئاً غير ما يعلمهم الله ، ودخل في ضمن هذا النفي العام الاعتراف بالقصور عن معرفة الأسماء المسئول عنها .
ومعنى { إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } أي : أنت يا ربنا العليم بكل شيء ، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء ، لك الحكمة في ذلك ، والعدل التام .
وقدم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة ، ليكون وصفه بالعلم متصلا بنفيهم عن أنفسهم في قولهم : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ } .
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله جل ذكره عن ملائكته بالأوبة إليه ، وتسليم علم ما لم يعلموه له ، وتبريهم من أن يعلموا أو يعلم أحد شيئا إلا ما علمه تعالى ذكره .
وفي هذه الاَيات الثلاث العبرة لمن اعتبر ، والذكرى لمن اذّكر ، والبيان لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، عما أودع الله جل ثناؤه آي هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن . وذلك أن الله جل ثناؤه احتجّ فيها لنبيه صلى الله عليه وسلم على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل باطلاعه إياه من علوم الغيب التي لم يكن جل ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلا خاصّا ، ولم يكن مدركا علمه إلا بالإنباء والإخبار ، لتتقرّر عندهم صحة نبوّته ، ويعلموا أن ما أتاهم به فمن عنده ، ودلّ فيها على أن كل مخبر خبرا عما قد كان أو عما هو كائن مما لم يكن ولم يأته به خبر ولم يوضع له على صحته برهان فمتقوّل ما يستوجب به من ربه العقوبة .
ألا ترى أن الله جل ذكره ردّ على ملائكته قيلهم : أتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قالَ إنّي أعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وعرّفهم أن قيل ذلك لم يكن جائزا لهم بما عرّفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء ، فقال : أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَولاءِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فلم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بالعجز والتبرّي إليه أن يعلموا إلا ما علمهم بقولهم : سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاّ ما عَلمْتَنَا فكان في ذلك أوضح الدلالة وأبين الحجة على كذب مقالة كل من ادّعى شيئا من علوم الغيب من الحزاة والكهنة والقافة والمنجمة . وذكر بها الذين وصفنا أمرهم من أهل الكتاب سوالف نعمه على آبائهم ، وأياديه عند أسلافهم ، عند إنابتهم إليه ، وإقبالهم إلى طاعته مستعطفهم بذلك إلى الرشاد ، ومستعتبهم به إلى النجاة ، وحذّرهم بالإصرار والتمادي في البغي والضلال ، حلولَ العقاب بهم نظير ما أحلّ بعدوّه إبليس ، إذ تمادى في الغيّ والخسار .
قال : وأما تأويل قوله : سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ ما عَلمْتَنَا فهو كما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : قالوا : سُبْحانَكَ تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره ، تبنا إليك ، لا علم لنا إلا ما علمتنا : تبرّءوا منهم من علم الغيب ، إلا ما علمتنا كما علمت آدم . وسبحان مصدر لا تصرّف له ، ومعناه : نسبحك ، كأنهم قالوا : نسبحك تسبيحا ، وننزّهك تنزيها ، ونبرّئك من أن نعلم شيئا غير ما علمتنا .
القول في تأويل قوله تعالى : إنكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ .
قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : أنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما وهو كائن ، والعالم للغيوب دون جميع خلقك . وذلك أنهم نفوا عن أنفسهم بقولهم : لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلّمْتَنَا أن يكون لهم علم إلا ما علمهم ربهم ، وأثبتوا ما نفوا عن أنفسهم من ذلك لربهم بقولهم : إنكَ أنْتَ العَلِيمُ يعنون بذلك العالم من غير تعليم ، إذ كان من سواك لا يعلم شيئا إلا بتعليم غيره إياه . والحكيم : هو ذو الحكمة . كما :
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، العليم : الذي قد كمل في علمه والحكيم : الذي قد كمل في حكمه .
وقد قيل : إن معنى الحكيم : الحاكم ، كما أن العليم بمعنى العالم ، والخبير بمعنى الخابر .
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )
{ قالوا } : ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا : { سبحانك } حكاه النقاش . قال : ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له «كم لبثت ؟ » ولم يشترط عليه الإصابة . فقال ، ولم يصب فلم يعنف .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا كله محتمل .
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال : معنى { إن كنتم } «إذ كنتم » .
قال الطبري : وهذا خطأ . وإن قال قائل ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة { إني جاعل } الآية ، قيل : هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب( {[446]} ) .
و { سبحانك } معناه : تنزيهاً لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته ، و { سبحانك } نصب على المصدر .
وقال الكسائي : «نصبه على أنه منادى مضاف »( {[447]} ) .
قال الزهراوي : موضع { ما } من قولهم { ما علمتنا } نصب ب { علمتنا }( {[448]} ) ، وخبر التبرئة في { لنا } ، ويحتمل أن يكون موضع { ما } رفعاً على أنه بدل من خبر التبرئة ، كما تقول لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله ، و { أنت } في موضع نصب تأكيد للضمير في { إنك } ، أو في موضع رفع على الابتداء .
و { العليم } خبره ، والجملة خبر «إن » ، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب . و { العليم } معناه : العالم ، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل .
و { الحكيم } معناه الحاكم ، وبينهما مزية المبالغة ، وقيل : معناه المحكم كما قال عمرو بن معديكرب : [ الوافر ] .
أمن ريحانة الداعي السميع . . . أي المسمع ، ويجيء { الحكيم } على هذا من صفات الفعل .
وقال قوم : { الحكيم } المانع من الفساد ، ومنه حكمة الفرس ما نعته( {[449]} ) ، ومنه قول جرير : [ الكامل ] .
أبني حنيفةَ أحكمُوا سفهاءكُمْ . . . إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا