ثم ساق - سبحانه - الأدلة المبطلة لما تفوه به المشركون من مزاعم فقال - تعالى - { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
أى : هو مبدعهما ومنشئهما وخالقهما على غير مثال سبق ، ومنه سميت البدعة بدعة لأنه لا نظير لها فيما سلف .
وقوله : { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } أى : من أين وكيف يكون له ولد - كما زعموا - والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها ، ويستحيل ضرورة وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد ، وأيضاً الولد لا يحصل إلا بين متجانسين ولا مجانس له - سبحانه - .
وجملة { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } مستأنفة لتقرير تنزهه عن ذلك ، وجملة { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } حال مؤكدة لاستحالة ما نسبوه إليه من الولد .
وقوله { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } جملة أخرى مستأنفة لتحقيق ما ذكر من الاستحالة ، أو حال ثانية مقررة لها .
أى : كيف يكون له ولد والحال أنه خلق كل شىء انتظمه التكوين والإيجاد من الموجودات التى من جملتها ما سموه ولداً له - تعالى - فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه ؟
قال صاحب الكشاف : " وفى هذه الآية الكريمة إبطال لأن يكون لله ولد من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن مبتدع السموات والأرض وهى أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة . لأن الولادة من صفات الأجسام ، ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والداً .
والثانى : أن الولادة لا تكون إلا لمن له صاحبة والله - تعالى - لا صاحبة له فلم تصح الولادة .
والثالث : أنه ما من شىء إلا وهو خالقه والعالم به ، ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شىء والولد إنما يطلبه المحتاج .
وجملة { وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان أن يكون له ولد .
أى : أنه - سبحانه - عالم بكل المعلومات ، فلو كان له ولد فلا بد أن يتصف بصفاته ومنها عموم العلم ، وهو منفى عن غيره بالإجماع .
ثم يواجه فريتهم هذه وتصوراتهم بالحقيقة الإلهية ، ويناقشهم في هذه التصورات بما يكشف عما فيها من هلهلة :
( بديع السماوات والأرض . أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة . وخلق كل شيء ، وهو بكل شيء عليم ) . .
إن الذين يبدع هذا الوجود إبداعا من العدم ما تكون حاجته إلى الخلف ! ؟ والخلف إنما هو امتداد الفانين ، وعون الضعفاء ، ولذة من لا يبدعون !
ثم هم يعرفون قاعدة التكاثر . . أن يكون للكائن صاحبة أنثى من جنسه . . فكيف يكون لله ولد - وليست له صاحبة - وهو - سبحانه - مفرد أحد ، ليس كمثله شيء . فأنى يكون النسل بلا تزاوج ؟ !
وهي حقيقة ، ولكنها تواجه مستواهم التصوري ؛ وتخاطبهم بالأمثلة القريبة من حياتهم ومشاهداتهم !
ويتكى ء السياق - في مواجهتهم - على حقيقة " الخلق " لنفي كل ظل للشرك . فالمخلوق لا يكون أبدا شريكا للخالق . وحقيقة الخالق غير حقيقة المخلوق : كما يواجههم بعلم الله المطلق الذي لا تقابله منهم إلا أوهام وظنون :
{ بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنّىَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يقول تعالى ذكره : الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنّ شركاء وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ، بَدِيعُ السّمَواتِ والأَرْضِ يعني مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : بَدِيعُ السّمَوَاتِ والأرْضِ قال : هو الذي ابتدع خلقهما جلّ جلاله فخلقهما ولم تكونا شيئاً قبله .
أنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلمْ تَكُنْ لَهْ صَاحِبَةٌ والولد إنما يكون من الذكر من الأنثى ، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة فيكون له ولد وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء . يقول : فإذا كان لا شيء إلاّ الله خلقه ، فأنى يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد
القول في تأويل قوله تعالى : وَخَلقَ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : والله خلق كلّ شيء ولا خالق سواه ، وكلّ ما تدّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه خلقه وعبيده ، ملكاً كان الذي تدعونه ربّا وتزعمون أنه له ولد أو جنيّا أو إنسيّا .
وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : والله الذي خلق كلّ شيء ، لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه ، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، عالم بعددكم وأعمالكم وأعمال من دعوتموه ربّا أو لله ولداً ، وهو محصيها عليكم وعليهم حتى يجازي كلاّ بعمله .
و { بديع } بمعنى : مبدع ومخترع وخالق ، فهو بناء اسم فاعل كما جاء : سميع بمعنى مسمع و { أنى } بمعنى كيف ومن أين ، فهي استفهام في معنى التوقيف والتقرير ، وقرأ جمهور الناس «ولم تكن » بالتاء على تأنيث علامة الفعل ، وقرأ إبراهيم النخعي : بالياء على تذكيرها وتذكير كان وأخواتها مع تأنيث اسمها أسهل من ذلك في سائر الأفعال ، فقولك : كان في الدار هند أسوغ من قام في الدار هند{[5036]} ، وحسن القراءة الفصل بالظرف الذي هو الخبر ويتجه في القراءة المذكورة أن يكون في { تكن } ضمير اسم الله تعالى ، وتكون الجملة التي هي { له صاحبة } خبر كان ، ويتجه أن يكون في «يكن » ضمير أمر وشأن وتكون الجملة بعد تفسيراً له وخبراً ، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد ، وقوله { وخلق كل شيء } لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه ، فليس هو عموماً مخصصاً على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئاً ثم يخرجه التخصيص ، وهذا لم يتناول قط هذه التي ذكرناها ، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان : قتلت كل فارس وأفحمت كل خصم فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه{[5037]} ، وأما قوله { وهو بكل شيء عليم } فهذا عموم على الإطلاق ولأن الله عز وجل يعلم كل شيء لا رب غيره ولا معبود سواه ، ولما تقررت الحجج وبانت الوحدانية جاء قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.