وبعد أن أمر القرآن المؤمنين في الآية السابقة بالعفو والصفح عن أعدائهم لأن الحكمة تجعل العفو والصفح خيراً من العقوبة والتأنيب ، انتقل بعد ذلك إلى أمرهم بالمحافظة على الشعائر التي تطهر قلوبهم ، وتزكي نفوسهم فقال - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة . . . }
قد أمرهم - سبحانه - في هذه الآية بالمواظبة على عمودي الإِسلام وهما العبادة البدنية التي تؤكد حسن صلة العبد بخالقه وهي الصلاة والعبادة المالية التي تؤلف بين قلوب الموسرين والمعسرين وهي الزكاة .
وجاءت جملة { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } بعد ذلك ، لترغبهم في فعل الخير على وجه عام ، ولتحثهم على التزود من الأعمال الصالحة سواء أكانت فرضاً أم نفلا .
وقال { لأَنْفُسِكُم } للإِشعار بأن ما يقدمه المؤمن من خير إنما يعود نفعه إليه ، وأنه سيجد عند الله نظير ذلك الثواب الجزيل ، والأجر العظيم ، وفي قوله ، عند الله ، إشارة إلى ضخامة الثواب ، لأنه صادر من الغني الحميد .
وجاءت جملة { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لتأكيد ذلك الوعد ، فقد دلت على أن الله - تعالى - لا يخفى عليه عمل عامل قليلا كان أو كثيرا . وإذا كان عالماً محيطاً بكل عمل يصدر من الإِنسان ، كانت الأعمال محفوظة عنده - تعالى - ، فلا يضيع منها عمل دون أن يلقى العامل جزاءه يوم الدين .
وفي إعادة ذكر اسم الجلالة في هذه الجملة مع تقدم ذكره في قوله : { تَجِدُوهُ عِندَ الله } إشعار باستقلال هذه الجملة ، وبشدة الاهتمام بالمعنى الذي تضمنته .
كذلك من فوائد إظهار اسم الجلالة في مقام يجوز فيه الإِضمار ، أن تكون الجملة كحكمة تقال عند كل مناسبة ، بخلاف ما لو أتى بدل الاسم الظاهر بالضمير فإن إلقاءه عند المناسبة يستدعي أن تذكر الجملة السابقة معها حتى يعرف المراد من الضمير .
وامضوا في طريقكم التي اختارها الله لكم ، واعبدوا ربكم وادخروا عنده حسناتكم :
( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله . إن الله بما تعملون بصير ) . .
وهكذا . . يوقظ السياق القرآني وعي الجماعة المسلمة ويركزه على مصدر الخطر ، ومكمن الدسيسة ؛ ويعبىء مشاعر المسليمن تجاه النوايا السيئة والكيد اللئيم والحسد الذميم . . ثم يأخذهم بهذه الطاقة المعبأة المشحونة كلها إلى جناب الله ؛ ينتظرون أمره ، ويعلقون تصرفهم بإذنه . . وإلى أن يحين هذا الأمر يدعوهم إلى العفو والسماحة ، لينقذ قلوبهم من نتن الحقد والضغينة . ويدعها طيبة في انتظار الأمر من صاحب الأمر والمشيئة . .
{ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى على معنى إقامة الصلاة ، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها ، وعلى تأويل الصلاة وما أصلها ، وعلى معنى إيتاء الزكاة ، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووَجبت ، وعلى معنى الزكاة واختلاف المختلفين فيها ، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : { وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ } فإنه يعني جل ثناؤه بذلك : ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم ، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة ، فيجازيكم به . والخير : هو العمل الذي يرضاه الله . وإنما قال : تَجِدُوهُ والمعنى : تجدوا ثوابه . كما :
حُدثت عن عمار بن الحسن . قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { تجِدُوهُ } يعني : تجدوا ثوابه عند الله .
قال أبو جعفر : لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه ، كما قال عمر بن لجأ :
وَسَبّحَتِ المَدِينَةُ لا تَلُمْها رأتْ قَمَرا بِسُوقِهِمُ نَهَارا
وإنما أراد : وسبح أهل المدينة . وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسم ، ليطهّروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود ، وركون من كان ركن منهم إليهم ، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : راعِنا إذ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب ، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الاَثام ، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } .
وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الاَيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير وشرّ سِرّا وعلانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان جزاءه وبالإساءة مثلها . وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدا ووعيدا ، وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته ، إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يُثيبهم عليه ، كما قال : وما تُقَدّمُوا لأِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ وليحذروا معصيته ، إذ كان مطلعا على راكبها بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها . وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهيّ عنه ، وما وعد عليه فمأمور به .
وأما قوله : بَصِيرٌ فإنه مُبْصِر صرف إلى بصير ، كما صرف مُبْدِع إلى بديع ، ومُؤْلم إلى أليم .
قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } أريد به الأمر بالثبات على الإسلام فإن الصلاة والزكاة ركناه فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه على طريق الكناية .
وقوله : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح . وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم ولكنه لا يضيع عند الله ولذلك اقتصر على قوله : { عند الله } قال الحطيئة :
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه *** لا يذهب العرف بين الله والناس
وقوله تعالى : { إن الله بما تعملون بصير } تذييل لما قبله . والبصير العليم كما تقدم ، وهو كناية عن عدم إضاعة جزاء المحسن والمسيء لأن العليم القدير إذا علم شيئاً فهو يرتب عليه ما يناسبه إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز ، وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيداً لغيرهم لأنه إذا كان بصيراً بما يعمل المسلمون كان بصيراً بما يعمل غيرهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.