ثم حكى - سبحانه - ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا في الخير ولكن في الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } .
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهرى وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلُّهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأنباؤهم وإخوانهم في بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بها المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففلعوا . قال : ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله . . } الآية .
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبرير قال : نزلت في أبى سفيان بن حرب ، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانة ، فقاتل بهم النبى - صلى الله عليه وسلم - :
وروى عن الكلبى والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش . . . كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر .
قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فهى عامة وإن كان سبب نزولها خاصا .
أى : أن الآية الكريمة تتناول بوعديها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله ، وفى تأييد الباطل ومعارضة الحق .
المعنى : أن الذين كفروا بالحق لما جاءهم { يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } لافى جوه الخير ، وإنما ينفقونها { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أى : ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول في الدين الذي يوصلهم إلى رضا الله وغلى طريقه القويم .
واللام في قوله : { لِيَصُدُّواْ } لام الصيرورة ، ويصح أن تكون للتعليل ؛ لأن غرضهم منع الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والذى يرونه ديناً مخالفاً لما كان عليه الآباء والأجداد فيجب محاربته في زعمهم .
وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ . . . } بيان لما سيؤول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة .
أى : فيسنفقون هذه الأموال في الشرور والعدوان ، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم ، لأنهم لم يصلوا - ولن يصلوا - من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون . وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإِذلال في الدنيا ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لأتباع الحق لالأتباع الباطل .
وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا } خبر إن في قوله { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . } واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط ، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى .
وفى تكرير الإِنفاق في شبه الشرط والجزاء ، إشعار بكمال سوء إنفاقهم ، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم في خير أو ما يشبه الخير ، وإنما أنفقوها في الشرور المحضة .
وجاء العطف بحرف { ثُمَّ } للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم . فهم قد قصوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق والانتصار على المؤمنين . . ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح ، فقد ذهبت أموالهم سدى ، وغلبوا المرة بعد المرة ، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين .
وقوله : { والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في الدنيا .
أى : أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها .
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله . . هكذا فعلوا يوم بدر ، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة . . وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية . والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون ، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة :
( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ؛ ثم يغلبون ؛ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعاً ، فيجعله في جهنم ، أولئك هم الخاسرون ) . .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ؛ ورجع أبو سفيان بِعيره ، مشى عبدالله بن ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ! فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففعلوا . فقال : ففيهم - كما ذكر ابن عباس - أنزل الله عز وجل : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم . . . ) .
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين . . إنهم ينفقون أموالهم ، ويبذلون جهودهم ، ويستنفدون كيدهم ، في الصد عن سبيل الله ، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين . وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين . .
إن المعركة لن تكف . وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة . ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن . وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية ، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان ؛ ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت .
والله - سبحانه - ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة . . إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية ، وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا . وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم ، فتتم الحسرة الكبرى . . ذلك . .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَىَ جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم ، فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوّوا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، ليصدّوا المؤمنين بالله ورسوله ، عن الإيمان بالله ورسوله ، فسينفقون أموالهم في ذلك ثم تَكُونُ نفقتهم تلك عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يقول : تصير ندامة عليهم ، لأن أموالهم تذهب ، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله ، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله ، لأن الله معلي كلمته ، وجاعل كلمة الكفر السفلى ، ثم يغلبهم المؤمنون ، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم ، فيعذّبون فيها ، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك أما الحيّ فحُرِب ماله وذهب باطلاً في غير درك ولا نفع ورجع مغلوبا مقهورا محزونا مسلوبا وأما الهالك : فقُتل وسُلب وعجل به إلى نار الله يخلد فيها ، نعوذ بالله من غضبه وكان الذي تولى النفقة التي ذكرها الله في هذه الاَية فيما ذكر أبا سفيان . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ . . . الاَية وَالّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ قال : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة ، فقاتل بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين يقول فيهم كعب بن مالك :
وَجِئْنا إلى مَوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَهُ ***أحابِيشُ مِنْهُمْ حاسِرٌ وَمُقَنّعُ
ثَلاثَةُ آلافٍ ونَحْنُ نَصِيّةٌ ***ثَلاثُ مِئِينَ إنْ كَثُرْنا فَأرْبَعُ
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن ابن أبزى : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال : نزلت في أبي سفيان ، استأجر يوم أُحد ألفين ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب .
قال : أخبرنا أبي عن خطاب بن عثمان العصفري ، عن الحكم بن عتيبة : إنّ الّذِبنَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال : نزلت في أبي سفيان ، أنفق على المشركين يوم أُحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الأوقية يومئذٍ اثنين وأربعين مثقالاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ . . . الاَية ، قال : لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة ، أنشد الناس ودعاهم إلى القتال حتى غزا نبيّ الله من العام المقبل ، وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان ، وكانت أُحد في شوّال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام الرابع .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال الله فيما كان المشركون ومنهم أبو سفيان يستأجرون الرجال يقاتلون محمدا بهم : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وهو محمد صلى الله عليه وسلم فَسَيْنْفِقُونَها ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يقول : ندامة يوم القيامة وويلاً ثم يُغْلَبُونَ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ . . . الاَية ، حتى قوله : أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ قال : في نفقة أبي سفيان على الكقار يوم أُحد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قالا : حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ قالوا : لما أصابت المسلمون يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب ورجع فَلهّم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ففعلوا . قال : ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ . . . إلى قوله : وَالّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ . . . إلى قوله : يُحْشَرُون يعني النفر الذين مشوا إلى أبي سفيان وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة ، فسألوهم أن يعينوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ففعلوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن عطاء بن دينار ، في قول الله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ . . . الاَية ، نزلت في أبي سفيان بن حرب .
وقال بعضهم : عني بذلك المشركون من أهل بدر . ذكر من قال ذلك .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّ الّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ لِيَصُدّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ . . . الاَية ، قال : هم أهل بدر .
والصواب من القول في ذلك عندي ما قلنا ، وهو أن يقال : إن الله أخبر عن الذين كفروا به من مشركي قريش أنهم ينفقون أموالهم ، ليصدوا عن سبيل الله ، لم يخبرنا بأيّ أولئك عنى ، غير أنه عمّ بالخبر الذين كفروا ، وجائز أن يكون عنى : المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأُحد ، وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر ، وجائز أن يكون عنى القريقين .
وإذا كان ذلك كذلك ، فالصواب في ذلك أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه الذين كفروا من قريش .
{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله } نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من قريش يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر ، أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية . أو في أصحاب العير فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك منه ثأرنا ففعلوا ، والمراد ب { سبيل الله } دينه واتباع رسوله . { فسينفقونها } بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق بدر ، والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق حد ، ويحتمل أن يراد بهما واحد على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته وإنه لم يقع بعد . { ثم تكون عليهم حسرة } ندما وغما لفواتها من غير مقصود جعل ذاتها تصير حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة . { ثم يُغلبون } آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك . { والذين كفروا } أي الذين ثبتوا على الكفر منهم إذا أسلم بعضهم . { إلى جهنم يُحشرون } يساقون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم}، وذلك أن رؤوس كفار قريش استأجروا رجالا من قبائل العرب أعوانا لهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فأطعموا أصحابهم كل يوم عشر جزائر ويوما تسعة، فنزلت: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم} {ليصدوا عن سبيل الله} يعنى عن دين الله، {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة}، يعنى ندامة، {ثم يغلبون} يقول: تكون عليهم أموالهم التي أنفقوها ندامة على إنفاقهم، ثم يهزمون، ثم أخبر بمنزلتهم في الآخرة، فقال: {والذين كفروا} بتوحيد الله، {إلى جهنم} في الآخرة {يحشرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إن الذين كفروا" بالله ورسوله "ينفقون أموالهم"، فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوّوا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، "ليصدّوا "المؤمنين بالله ورسوله، عن الإيمان بالله ورسوله، فسينفقون أموالهم في ذلك "ثم تَكُونُ" نفقتهم تلك "عَلَيْهِمْ حَسْرَةً" يقول: تصير ندامة عليهم، لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله معلي كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم، فيعذّبون فيها، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك؛ أما الحيّ فحُرِب ماله وذهبَ باطلاً في غير درك ولا نفع ورجع مغلوبا مقهورا محزونا مسلوبا، وأما الهالك: فقُتل وسُلب وعجل به إلى نار الله يخلد فيها، نعوذ بالله من غضبه...
إن الله أخبر عن الذين كفروا به من مشركي قريش أنهم ينفقون أموالهم، ليصدوا عن سبيل الله، لم يخبرنا بأيّ أولئك عنى، غير أنه عمّ بالخبر الذين كفروا، وجائز أن يكون عنى: المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأُحد، وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر، وجائز أن يكون عنى الفريقين.
وإذا كان ذلك كذلك، فالصواب في ذلك أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه الذين كفروا من قريش.
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية، أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية...
ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل الله، أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك.
ثم قال: {فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة} يعني: أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة، لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}.
وقوله: {والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} ففيه بحثان:
البحث الأول: أنه لم يقل: وإلى جهنم يحشرون، لأنه كان فيهم من أسلم، بل ذكر أن الذين بقوا على الكفر يكونون كذلك.
البحث الثاني: أن ظاهر قوله: {إلى جهنم يحشرون} يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم، لأن تقديم الخبر يفيد الحصر.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنهم لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الإنفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
تنبيه: قال بعضهم: ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين. {والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله} أي عن الإسلام واتباع خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام {فسينفقونها} في سبيل الشيطان صدا وفتنة وقتالا {ثم تكون عليهم حسرة} وندما وأسفا، لذهابها سدى، وخسرانها عبثا، إذ لا يطيعهم ممن أراد الله هدايتهم أحد {ثم يغلبون} المرة بعد المرة، وينكسرون الكرة بعد الكرة {والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} أي يساقون يوم القيامة إليها دون غيرها كما أفاده تقديم الظرف على متعلقه. هذا إذا أصروا على كفرهم حتى ماتوا عليه، فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما. ومن العبرة في هذا للمؤمنين أنهم أولى من الكفار ببذل أموالهم وأنفسهم في سبيل الله لأن لهم بها من حيث جملتهم سعادة الدارين، ومن حيث أفرادهم الفوز بإحدى الحسنيين هكذا كان في كل زمان قام المسلمون فيه بحقوق الإسلام والإيمان، وهكذا سيكون، إذا عادوا إلى ما كان عليه سلفهم الصالحون. والكفار في هذا الزمان ينفقون القناطير المقنطرة من الأموال للصد عن الإسلام، وفتنة الضعفاء من العوام، بجهاد سلمي، أعم من الجهاد الحربي، وهو الدعوة إلى أديانهم، والتوسل إلى نشرها بتعليم أولاد المسلمين في مدارسهم، ومعالجة رجالهم ونسائهم في مستشفياتهم. والمسلمون مواتون، يرسلون أولادهم إليهم ولا يبالون ما يعملون {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} [المائدة: 58].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله.. هكذا فعلوا يوم بدر، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة.. وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية. والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة:
(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة؛ ثم يغلبون؛ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض، فيركمه جميعاً، فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون)..
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم -أي جيشهم المهزوم- إلى مكة؛ ورجع أبو سفيان بِعيره، مشى عبدالله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم! فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا. ففعلوا. فقال: ففيهم -كما ذكر ابن عباس- أنزل الله عز وجل: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم...).
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين.. إنهم ينفقون أموالهم، ويبذلون جهودهم، ويستنفدون كيدهم، في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين. وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين..
إن المعركة لن تكف. وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة. ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن. وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان؛ ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت.
والله -سبحانه- ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة.. إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية، وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا. وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم، فتتم الحسرة الكبرى.. ذلك..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما ذُكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم، عُقب بذكر محاولتهم استئصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني ب {سبيل الله} وجعلت الجملة مستأنفة، غير معطوفة، اهتماماً بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام، وأتى بصيغة المضارع في {ينفقون} للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العُدد لغزو المسلمين، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه.
وهذا الإنفاق: أنهم كانوا يطعمون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم...
وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة، وإلاّ فإنهم ينفقون بعض أموالهم.
والفاء في {فسينفقونها} تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الانفاق في المستقبل، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الانفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين.
وضمير {ينفقونها} راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفَقة بل الأموال الباقية أو بما يكتسبونه.
و {ثم} للتراخي الحقيقي والرتبي، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم، والحسرة شدة الندامة والتلهفُ على ما فات، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها. ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر، لأن الأموال سبب التَحَسر لا سبب الحسرة نفسها.
وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائِل فيما أنفقوا لأجله، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصُل له المقصود من إنفاقه. ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلِبون...
وقوله: {ثم يُغلبون} ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم، فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائِل تُوعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضاً يومَ بدر، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاعِ دابر أمرهم، وهذا كالإنذار في قوله: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلوماً بالسياق فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لَقاحاً.
و {ثم} للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها.
{والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}
كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى جهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى: {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بأصرح عبارة...
وعرّفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر، فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم.