وأما الفريق الثاني فقد عبر - سبحانه - عنه بقوله : { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } .
أي : يقولون يا ربنا أعطنا حسنة في الدنيا أي : حالا حسنة في الدنيا تكون معها أبداننا سليمة ، ونفوسنا آمنة ، ومعيشتنا ميسرة بحيث لا نحتاج إلى أحد سواك ، ولا نذل إلا لك ، وامنحنا حالا حسنة في الآخرة بأن تجعلنا يوم لقائك ممن رضيت عنهم ، ورضوا عنك ، وأبعدنا يوم القيامة من عذاب النار . ولم يذكر - سبحانه - قسماً ثالثاً من الناس وهو الذي يطلب الآخرة .
فقد ، ولا يطلب الدنيا ، لأن الإِسلام دين لا يرضى لأتباعه أن ينسوا حظوظهم من الدنيا ، ولا يقر الانقطاع عن زينتها التي أخرجها الله لهم ، وإنما يريد لهم أن يكونوا من العاملين بقوله - تعالى - : { وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } وبين - سبحانه - أن هذا النوع الثاني من الناس قد التمس من خالقه أن يقيه عذاب النار مع أن هذا الدعاء مندرج تحت حسنة الآخرة ، وذلك لأن هذا النوع من الناس لقوة إيمانه ، وصفاء وجدانه ، وشدة خشيته من ربه يغلب الخوف على الرجاء ، فهو يستصغر حسناته مهما كثرت بجانب نعم الله وفضله ، ويلح في الدعاء وفي الطلب أملا في الاستجابة .
وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية الكريمة من جوامع الدعاء ، وورد في فضل الدعاء بها أحاديث كثيرة منها ما رواه البخاري عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .
وروى ابن أبي حاتم عن عبد السلام بن شداد قال : كنت عند أنس بن مالك فقال له ثابت : إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم . فقال : " اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " وتحدثوت حتى إذا أرادوا القيام قال : يا أبا حمزة إن إخوانك يريدون القيام فادع الله لهم فقال : أتريدون أن أشقق لكم الأمور ! ! إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله .
قال الإِمام الرازي : اعلم أن الله - تعالى - بين أولا تفصيل مناسك الحج ، ثم أمر بعدها بالذكر فقال : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره وأن يقتصر على ذكره - سبحانه - ثم بين بعد ذلك كيفية الدعاء فقال : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ . . . } وما أحسن هذا الترتيب فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ثم بعد العبادة لابد من الاشتغال بذكر الله - تعالى - لتنوير القلب وتجلي نور جلاله . ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء ، فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر كما حكى عن إبراهيم - عليه السلام - أنه قدم الذكر فقال : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ثم قال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } فقدم الذكر على الدعاء " .
وفريقا أفسح أفقا ، وأكبر نفسا ، لأنه موصول بالله ، يريد الحسنة في الدنيا ولكنه لا ينسى نصيبه في الآخرة فهو يقول :
( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) . .
إنهم يطلبون من الله الحسنة في الدارين . ولا يحددون نوع الحسنة - بل يدعون اختيارها لله ، والله يختار لهم ما يراه حسنة وهم باختياره لهم راضون . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وِمِنْهُمْ مّن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ }
اختلف أهل التأويل في معنى الحسنة التي ذكر الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : يعني بذلك : ومن الناس من يقول : ربنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الاَخرة : ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال : في الدنيا عافية ، وفي الاَخرة عافية .
قال قتادة : وقال رجل : اللهمّ ما كنت معاقبي به في الاَخرة فعجله لي في الدنيا فمرض مرضا حتى أضنى على فراشه ، فذكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم شأنه ، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : إنه دعا بكذا وكذا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّهُ لا طاقَةَ لأِحَدٍ بِعُقُوبَةِ اللّهِ ، وَلَكِنْ قُلْ : رَبّنا آتِنا فِي الدّنيْا حَسَنَةً وفي الاَخِرِةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّار » فقالها ، فما لبث إلا أياما أو يسيرا حتى برأ .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن الحكم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : ثني حميد ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قد صار مثل الفرخ المنتوف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللّهَ بِشَيْءٍ ، أوْ تَسألُ اللّهَ شَيْئا ؟ » قال : قلت : اللهمّ ما كنت معاقبي به في الاَخرة فعاقبني به في الدنيا . قال : «سُبْحانَ اللّهِ هَلْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أحَدٌ أوْ يُطِيقُهُ فهَلاّ قُلْتَ : اللّهُمّ آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً ، وفِي الاَخِرَة حَسَنَةً ، وَقِنا عَذَابَ النّارِ » .
وقال آخرون : بل عنى الله عز وجل بالحسنة في هذا الموضع : في الدنيا : العلم والعبادة ، وفي الاَخرة : الجنة . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال : الحسنة في الدنيا : العلم والعبادة ، وفي الاَخرة : الجنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : رَبّنا آتِنا فِي الدّنيْا حَسَنَةً ، وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال : العبادة في الدنيا ، والجنة في الاَخرة .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن هشام ، عن الحسن في قوله : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً قال : الحسنة في الدنيا : الفهم في كتاب الله والعلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول هذه الآية : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال : الحسنة في الدنيا : العلم والرزق الطيب ، وفي الاَخرة حسنة : الجنة .
وقال آخرون : الحسنة في الدنيا : المال ، وفي الاَخرة : الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال : فهؤلاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً هؤلاء المؤمنون أما حسنة الدنيا فالمال ، وأما حسنة الاَخرة فالجنة .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله ، ممن حجّ بيته ، يسألون ربهم الحسنة في الدنيا ، والحسنة في الاَخرة ، وأن يقيهم عذاب النار . وقد تجمعُ الحسنة من الله عزّ وجل العافية في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك والعلم والعبادة . وأما في الاَخرة فلا شك أنها الجنة ، لأن من لم ينلها يومئذٍ فقد حرم جميع الحسنات وفارق جميع معاني العافية .
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية لأن الله عز وجل لم يخصص بقوله مخبرا عن قائل ذلك من معاني الحسنة شيئا ، ولا نصب على خصوصه دلالة دالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فالواجب من القول فيه ما قلنا من أنه لا يجوز أن يخصّ من معاني ذلك شيء ، وأن يحكم بعمومه على ما عمه الله .
وأما قوله : وَقِنا عَذَابَ النّارِ فإنه يعني بذلك : اصرف عنا عذاب النار ، يقال منه : وقيته ، كذا أقيه وقاية وواقية ووقاء ممدودا ، وربما قالوا : وقاك الله وَقْيا : إذا دفعت عنه أذى أو مكروها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.