التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

تلك هي القصة الأولى التي ساقها الله - تعالى كدليل على قدرته وعلى صحة البعث والنشور . أما القصة الثانية التي تؤكد هذا المعنى فقد حكاها القرآن في قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } أي : واذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن قال إبراهيم - عليه السلام - مخاطباً خالقه - سبحانه - : رب أرني بعيني كيف تعيد الحياة إلى الموتى .

وفي قوله : ( رب ) تصريح بكمال أدبه مع خالقه - عز وجل - فهو قبل أن يدعوه يستعطفه ويعترف له بالربوبية الحقة ، والألوهية التامة ، ويلتمس منه معرفة كيفية إحياء الموتى ، فهو لا يشك في قدرة الله ولا في صحة البعث - وحاشاه أن يفعل ذلك - فهو رسلو من أولى العزم من الرسل ، وإنما هو يريد أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين ، ومن مرتبة البرهان إلى مرتبة العيان ، فإن العيان يغرس في القلب أسمى وأقوى ألوان المعرفة والاطمئنان .

وقد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم - عليه السلام - أسبابا منها : أنه لما قال للنمرود { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أحب أن يترقى بأن يرى ذلك مشاهدة . وقد أجاب الخالق - عز وجل - على طلب إبراهيم بقوله : { أَوَلَمْ تُؤْمِن } أي : أتقول ذلك وتطلبه ولم تؤمن بأنىقادر على الإِحياء وعلى كل شيء ؟

فالجملة الكريمة استئناف مبنى على السؤال ، وهي معطوفة على مقدر ، والاستفهام للتقرير .

وهنا يحكى القرآن جواب إبراهيم على خالقه - عز وجل - فيقول : { قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي قال إبراهيم في الرد على سؤال ربه له { أَوَلَمْ تُؤْمِن } بلى يا رب آمنت بك وبقدرتك وبوحدانيتك إيمانا صادقا كاملا ، ولكني سألت هذا السؤال ليزداد قلبي سكونا واطئمان وإيماناً لأن من شأن المشاهدة أن تغرس في القلب سكونا واطمئنان أشد ، وإيمانا أقوى ، وأنا في جميع أحوالي مؤمن كل الإِيمان بقدرتك ووحدانيتك يا رب العالمين .

قال القرطبي ما ملخصه : لم يكن إبراهيم شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة ، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به ، ولهذا جاء في الحديث " ليس الخبر كالمعاينة " قال الأخفش : لم يرد إبراهيم رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين . وقال الحسين : سأل ليزداد يقينا إلى يقينه .

وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم :

" نحن أحق بالشك من إبراهيم " فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق بالشك منه ، ونحن لا نشك فإبراهيم - عليه السلام - وسائر ألفاظه الآتية لم تعط شكا ، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول ، وكيف هنا إنما هي استفهام عن هيئة الإِحياء والإِحياء متقرر ، - فسؤال إبراهيم إنما هو عن كيفية لا عن أصل القضية . . .

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قال له { أَوَلَمْ تُؤْمِن } وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا ؟ قلت : ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين . و { بلى } إيجاب لما بعد النفي معناه : بلى آمنت . وقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } أي ليزداد سكوننا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة - أي علم المشاهدة - إلى علم الاستدلال الذي يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري ، فأراد بطمانينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك . فإن قلت : بم تعلقت اللام في قوله : { لِّيَطْمَئِنَّ } قلت بمحذوف تقديره : ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب .

ثم حكى القرآن بعد ذلك ما كان من جواب الخالق - عز وجل - على نبيه إبراهيم فقال : { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً } .

قوله : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي فاضممهن إليك - قرئ بضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء - يقال : صاره يصوره ويصيره ، أي أماله وضمه إليه . ويقال - أيضاً صار الشيء بمعنى قطعه وفصله والمعنى : قال الله - تعالى - لإبراهيم : إذا أردت معرفة ما سألت عنه فخذ أربعة من الطير فاضممهن إليك لتتأملهن وتعرف أشكالهن وهيئاتهن كيلا تلتبس عليك بعد الإِحياء ، ثم اذبحهن وجزئهن أجزاء { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } أي ثم اجعل على كل مكان مرتفع من الأرض جزاء من كل طائر من تلك الطيور ثم نادهن يأتينك مسرعات إليك . والفاء في قوله { فَخُذْ } هي التي تسمى بالفاء الفصيحة لأنها تفصح عن شرط مقدر أي : إذا أردت ذفك فخذ .

وقوله : { مِّنَ الطير } متعلق بمحذوف صفة لأربعة أي فخذ أربعة كائنة من الطير ، أو متعلق بقوله ( خذ ) أي خذ من الطير . والطير اسم جمع - كرَكْب وسفر - وقل هو جمع طائر مثل تاجر وتجر . قالوا : وهذه الطيور الأربعة هي الطاووس والنسر والغراب والديك .

ومما قالوه في اختيار الطير لهذه الحالة : أن الطير من صفاته الطيران ، وأنه لا يستأنس بالإِنسان بل يطير بمرد رؤيته ، ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة .

وقوله : { ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } معطوف على محذوف دل عليه قوله : { جُزْءًا } لأن تجزئتهن إنما تقع بعد الذبح والتقدير : فاذبحهن ثم اجعل . . إلخ . وقوله : { ثُمَّ ادعهن } أي قل لهن تعالين بإذن الله .

وقوله { يَأْتِينَكَ } جواب الأمر فهو في محل جزم ، { سَعْياً } منصوب على المصدر النوعي ، لأن السعي نوع من الإِتيان فكأنه قيل : يأتينك إتياناً سريعاً :

قال الفخر الرازي : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية : قطعهن ، وأن إبراهيم قطع أعضاءهاه ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها ببعض - وفعل كما أمره الله ، ثم قال لهن تعالين بإذن الله فأقبلن مسرعات إليه بعد أن انضم كل جزء إلى أصله - ثم قال : ولكن أبا مسلم أنكر ذلك وقال : " إن إبراهيم لما طلب إحياء الميت من الله - تعالى - أراه الله مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بصرهن إليك : الإِمالة والتمرين على الإِجابة . أي : فعود الطوير الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعياً ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة . . "

والذي يطمئن إليه القلب هو رأي الجمهور لأن الآية مسوقة لتحقيق معجزة تجري على يد إبراهيم وهي إحياء الموتى بالمشاهدة كما جرى إحياء الرجل الذي أماته الله مائة عام والذي جاء ذكره في الآية السابقة ، ولأن ظاهر الآية صريح في أنه حصل تقطيع لأجزاء الطير ثم وضع كل جزء منها على مرتفع من الأرض ، وما دام الأمر كذلك فلا يجوز حمل المعنى على غير هذا الظاهر ، كما لا يجوز تحميل الألفاظ ما لا تحتمله . وما ذهب إليه أبو مسلم هو قول بلا دليل فضلا عن مخالفته لما عليه إجماع المفسرين .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي واعلم أن الله - تعالى - غالب على أمره ، قاهر فوق عباده ، حكيم في كل شئونه وأفعاله وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا أبلغ الأدلة والشواهد على قدرة الله - تعالى - وعلى أنه هو المستحق للعبادة والخضوع ، وعلى أن ما أخبر به من صحة البعث والنشور حق لا ريب فيه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

258

ثم تجيء التجربة الثالثة . تجربة إبراهيم أقرب الأنبياء إلى أصحاب هذا القرآن :

( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي . قال : فخذ أربعة من الطير ، فصرهن إليك ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .

إنه التشوف إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية . وحين يجيء هذا التشوف من إبراهيم الأواه الحليم ، المؤمن الراضي الخاشع العابد القريب الخليل . . حين يجيء هذا التشوف من إبراهيم فإنه يكشف عما يختلج أحيانا من الشوق والتطلع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوب أقرب المقربين !

إنه تشوف لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله واستقراره ؛ وليس طلبا للبرهان أو تقوية للإيمان . . إنما هو أمر آخر ، له مذاق آخر . . إنه أمر الشوق الروحي ، إلى ملابسة السر الإلهي ، في أثناء وقوعه العملي . ومذاق هذه التجربة في الكيان البشري مذاق آخر غير مذاق الإيمان بالغيب ولو كان هو إيمان إبراهيم الخليل ، الذي يقول لربه ، ويقول له ربه . وليس وراء هذا إيمان ، ولا برهان للإيمان . ولكنه أراد أن يرى يد القدرة وهي تعمل ؛ ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيستروح بها ، ويتنفس في جوها ، ويعيش معها . . وهي أمر آخر غير الإيمان الذي ليس بعده إيمان .

وقد كشفت التجربة والحوار الذي حكي فيها عن تعدد المذاقات الإيمانية في القلب الذي يتشوف إلى هذه المذاقات ويتطلع :

( وإذ قال إبراهيم : رب أرني كيف تحيي الموتى . قال : أو لم تؤمن ؟ قال : بلى ! ولكن ليطمئن قلبي ) . .

لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل ؛ واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف . ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله . ولكنه سؤال الكشف والبيان ، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه ، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم ، مع عبده الأواه الحليم المنيب !

ولقد استجاب الله لهذ الشوق والتطلع في قلب إبراهيم ، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة :

( قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ؛ ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ؛ ثم ادعهن يأتينك سعيا . واعلم أن الله عزيز حكيم ) . .

لقد أمره أن يختار أربعة من الطير ، فيقربهن منه ويميلهن إليه ، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطىء معها معرفتهن . وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن ، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة . ثم يدعوهن . فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى ، وترتد إليهن الحياة ، ويعدن إليه ساعيات . . وقد كان طبعا . .

ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه . وهو السر الذي يقع في كل لحظة . ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه . إنه سر هبة الحياة . الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن ؛ والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد .

رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه . . طيور فارقتها الحياة ، وتفرقت مزقها في أماكن متباعدة . تدب فيها الحياة مرة أخرى ، وتعود إليه سعيا !

كيف ؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه . إنه قد يراه كما رآه إبراهيم . وقد يصدق به كما يصدق به كل مؤمن . ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته . إنه من أمر الله . والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه ، لأنه أكبر منهم ، وطبيعته غير طبيعتهم . ولا حاجة لهم به في خلافتهم .

إنه الشأن الخاص للخالق . الذي لا تتطاول إليه اعناق المخلوقين . فإذا تطاولت لم تجد إلا الستر المسدل على السر المحجوب . وضاعت الجهود سدى ، جهود من لا يترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (260)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىَ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لّيَطْمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ ثُمّ اجْعَلْ عَلَىَ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنّ جُزْءًا ثُمّ ادْعُهُنّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر إذ قال إبراهيم ربّ أرني . وإنما صلح أن يعطف بقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } على قوله : { أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ } وقوله : { ألَمْ تَرَ إِلى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } لأن قوله : { ألَمْ تَرَ } ليس معناه : ألم تر بعينيك ، وإنما معناه : ألم تر بقلبك ، فمعناه : ألم تعلم فتذكر ، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فيعطف عليه أحيانا بما يوافق لفظه من الكلام ، وأحيانا بما يوافق معناه .

واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموت ؟ فقال بعضهم : كانت مسألته ذلك ربه ، أنه رأى دابة قد تقسمتها السباع والطير ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرّق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانا ، فيزداد يقينا برؤيته ذلك عيانا إلى علمه به خبرا ، فأراه الله ذلك مثلاً بما أخبر أنه أمره به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى } ذكر لنا أن خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتى على دابة توزّعتها الدوابّ والسباع ، فقال : { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتى قَالَ أوَلَمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } .

حدثت عن الحسن ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى } قال : مرّ إبراهيم على دابة ميت قد بلي وتقسمته الرياح والسباع ، فقام ينظر ، فقال : سبحان الله ، كيف يحيي الله هذا ؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك ، فذلك قوله : { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : بلغني أن إبرهيم بينا هو يسير على الطريق ، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزّعت لحمها وبقي عظامها . فلما ذهبت السباع ، وطارت الطير على الجبال والاَكام ، فوقف وتعجب ثم قال : ربّ قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع والطير { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَى } ولكن ليس الخبر كالمعاينة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : مرّ إبراهيم بحوت نصفه في البرّ ، ونصفه في البحر ، فما كان منه في البحر فدوابّ البحر تأكله ، وما كان منه في البرّ فالسباع ودوابّ البرّ تأكله ، فقال له الخبيث : يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فقال : يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى ! قال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن ليطمئنّ قلبي .

وقال آخرون : بل كان سبب مسألته ربه ذلك ، المناظرة والمحاجة التي جرت بينه وبين نمروذ في ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصه الله في سورة الأنبياء ، قال نمروذ فيما يذكرون لإبراهيم : أرأيت إلَهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : أنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ ثم ذكر ما قصّ الله من محاجته إياه . قال : فقال إبراهيم عند ذلك : { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أوَلَمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } من غير شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته ، ولكنه أحبّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه ، فقال : ليطمئنّ قلبي ، أي ما تاق إليه إذا هو علمه .

وهذان القولان ، أعني الأول وهذا الاَخر ، متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانا ما كان عنده من علم ذلك خبرا .

وقال آخرون : بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلاً ، فسأل ربه أن يريه عاجلاً من العلامة له على ذلك ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلاً ، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدا . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت ربه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك ، فأذن له ، فأتى إبراهيم وليس في البيت فدخل داره ، وكان إبراهيم أغير الناس ، إن خرج أغلق الباب¹ فلما جاء وجد في داره رجلاً ، فثار إليه ليأخذه ، قال : من أذن لك أن تدخل داري ؟ قال ملك الموت : أذن لي ربّ هذه الدار ، قال إبراهيم : صدقت ! وعرف أنه ملك الموت ، قال : من أنت ؟ قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلاً . فحمد الله وقال : يا ملك الموت أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار . قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك . قال : بلى . قال : فأعرِضْ ! فأعرض إبراهيم ثم نظر إليه ، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار . فغشي على إبراهيم ، ثم أفاق وقد تحوّل ملك الموت في الصورة الأولى ، فقال : يا ملك الموت لو لم يلق الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه ، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين ! قال : فأعرِضْ ! فأعرض إبراهيم ثم التفت ، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا ، في ثياب بيض ، فقال : يا ملك الموت لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرّة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه . فانطلق ملك الموت ، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول : { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى } حتى أعلم أني خليلك { قَالَ أوَلَمْ تُوءْمِنْ } بأني خليلك ، يقول تصدق ، { قَالَ بَلْى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } بخلولتك .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : بالخُلة .

وقال آخرون : قال ذلك لربه لأنه شكّ في قدرة الله على إحياء الموتى . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب في قوله : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : قال ابن عباس : ما في القرآن آية أرجى عندي منها .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل ، عن سعيد بن المسيب ، قال : اتّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا ، قال : ونحن يومئذٍ شببة ، فقال أحدهما لصاحبه : أيّ آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة ؟ فقال عبد الله بن عمرو { يا عِبادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ } حتى ختم الآية ، فقال ابن عباس : أما إن كنت تقول إنها ، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبرهيم صلى الله عليه وسلم { رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أوَلَمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } .

حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء بن أبي رباح ، عن قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قالَ أوَلَمْ تُوءْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لَيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس ، فقال : { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى . . . قال فخذ أربعة من الطير } ليريه .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال : حدثنا سعيد بن تليد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم ، قال : ثني بكر بن مضر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «نَحْنُ أحَقّ بالشّكّ مِنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى ، قَالَ أوَلَمْ تُوءْمِنْ ؟ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فذكر نحوه .

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ، ما صحّ به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وهو قوله : «نَحْنُ أحَقّ بالشّكّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ ، قَالَ رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى ، قَالَ أَوَلَمْ تُوءْمِنْ » وأن تكون مسألته ربه ما سأله أن يريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرض في قلبه ، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفا من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البرّ وبعضه في البحر قد تعاوره دوابّ البرّ ودوابّ البحر وطير الهواء ، ألقى الشيطان في نفسه فقال : متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء ؟ فسأل إبراهيم حينئذٍ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ليعاين ذلك عيانا ، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقى فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك ، فقال له ربه : { أوَلَمْ تُوءْمِنْ } يقول : أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر ؟ قال : بلى يا ربّ ، لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئنّ قلبي ، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رؤيتي هذا الحوت .

حدثني بذلك يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، عن ابن زيد .

ومعنى قوله : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه . وهذا التأويل الذي قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجهوا معنى قوله : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } إلى أنه ليزداد إيمانا ، أو إلى أنه ليوفق . ذكر من قال ذلك : ليوفق ، أو ليزداد يقينا أو إيمانا :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : ليوفق .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان . وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : ليزداد يقيني .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } يقول : ليزداد يقينا .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : وأراد نبيّ الله إبراهيم ليزداد يقينا إلى يقينه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال معمر وقال قتادة : ليزداد يقينا .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : أراد إبراهيم أن يزداد يقينا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن كثير البصري ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو الهيثم ، عن سعيد بن جبير : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : ليزداد يقيني .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير : { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : ليزداد يقينا .

حدثنا صالح بن مسمار ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، قال : حدثنا ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد وإبراهيم في قوله : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .

حدثنا صالح ، قال : حدثنا زيد ، قال : أخبرنا زياد ، عن عبد الله العامري ، قال : حدثنا ليث ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير في قول الله : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : لأزداد إيمانا مع إيماني .

وقد ذكرنا فيما مضى قول من قال : معنى قوله : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } بأني خليلك .

وقال آخرون : معنى قوله : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : { لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } قال : أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، وتعطيني إذا سألتك .

وأما تأويل قوله : { قَالَ أوَلَمْ تُوءْمِنْ } فإنه : أولم تصدّق ؟ كما :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن سعيد بن جبير قوله : { أوَلَمْ تُوءْمِنْ } قال : أولم توقن بأني خليلك ؟

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أوَلَمْ تُوءْمِنْ } قال : أولم توقن .

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ } .

يعني تعالى ذكره بذلك : قال الله له : فخذ أربعة من الطير . فذكر أن الأربعة من الطير : الديك ، والطاووس ، والغراب ، والحمام . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاوسا ، وديكا ، وغرابا ، وحماما .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأربعة من الطير : الديك ، والطاووس ، والغراب ، والحمام .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج : { قَالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ } قال ابن جريج : زعموا أنه ديك ، وغراب ، وطاووس ، وحمامة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { قالَ فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ } قال : فأخذ طاوسا ، وحماما ، وغرابا ، وديكا مخالفة أجناسها وألوانها .

القول في تأويل قوله تعالى : { فَصُرْهُنّ إلَيْكَ } .

اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والحجاز والبصرة : { فَصُرْهُنّ إلَيْكَ } بضم الصاد من قول القائل : صُرْت إلى هذا الأمر : إذا ملت إليه أَصُور صَوَرا ، ويقال : إني إليكم لأَصْوَرُ أي مشتاق مائل ، ومنه قول الشاعر :

الله يَعْلَمُ أنّا في تَلَفّتِنايَوْمَ الفِرَاقِ إلى أحْبابِنا صُورُ

وهو جمع أَصْوَر وصَوْرَاء وصُور ، مثل أسود وسوداء وسود . ومنه قول الطرماح :

عَفَائِفُ إِلاّ ذَاكَ أوْ أنْ يَصُورَها *** هَوًى والهَوَى للعاشِقِينَ صَرُوعُ

يعني بقوله : «أو أن يصورها هوى » : يميلها .

فمعنى قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } اضممهنّ إليك ووجههن نحوك ، كما يقال : صُرْ وجهك إليّ ، أي أقبل به إليّ . ومن وجه قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه ، ويكون معناه حينئذٍ عنده ، قال : فخذ أربعة من الطير فصرهنّ إليك ، ثم قطعهن ، ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا . وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرىء كذلك بضم الصاد : قَطّعهن ، كما قال تَوْبَة بن الحُمَيّر :

فلمّا جَذَبْتُ الحبْلَ أطّتْ نُسُوعُه *** بأطرافِ عِيدان شَديدٍ أُسُورُهَا

فَأدْنَتْ لِيَ الأسْبابَ حتى بلغتُها *** بنَهْضِي وقَد كانَ ارتقائي يَصُورُها

يعني يقطعها . وإذا كان ذلك تأويل قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } كان في الكلام تقديم وتأخير ، ويكون معناه : فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن ، ويكون إليك من صلة «خذ » .

وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : «فَصِرْهُنّ إِلَيْكَ » بالكسر ، بمعنى قطعهن .

وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون فصُرهنّ ولا فصِرْهُن ، بمعنى قطعهن في كلام العرب ، وأنهم لا يعرفون كسر الصاد وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد ، وأنهما جميعا لغتان بمعنى الإمالة ، وأن كسر الصاد منها لغة في هذيل وسليم¹ وأنشدوا لبعض بني سليم :

وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كأنّهُ *** على اللّيتِ قِنْوَانُ الكُرُومِ الدّوَالِحُ

يعني بقوله يصير : يميل ، وأن أهل هذه اللغة يقولون : صاره وهو يصيره صَيْرا ، وصِرْ وجهك إليّ : أي أمله ، كما تقول : صُرْه .

وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله : { فَصُرْهُنّ } ولا لقراءة من قرأ : «فَصِرْهُنّ » بضم الصاد وكسرها وجها في التقطيع ، إلا أن يكون «فَصِرْهُنّ إِلَيْكَ » في قراءة من قرأه بكسر الصاد من المقلوب ، وذلك أن تكون لام فعله جعلت مكان عينه ، وعينه مكان لامه ، فيكون من صَرَى يَصْرِي صَرْيا ، فإن العرب تقول : بات يَصْري في حوضه : إذا استقى ، ثم قطع واستقى ، ومن ذلك قول الشاعر :

صَرَتْ نَظْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوزَ دارِعٍ غَدَا والعَواصِي منْ دَمِ الجوفِ تَنْعَرُ

صرت : قطعت نظرة . ومنه قول الاَخر :

يقولونَ إنّ الشّام يقْتُلُ أهْلَهُ *** فَمَنْ لي إذا لم آتِهِ بخُلُودِ

تَعَرّبَ آبائي فهلاّ صَرَاهُمُ *** مِنَ المَوْتِ أنْ لم يذهَبوا وجُدودي

يعني قطعهم ، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل ، وحولت عينها فجعلت لامها ، فقيل صار يصير ، كما قيل : عَثِي يَعْثَى عَثا ، ثم حوّلت لامها ، فجعلت عينها ، فقيل عاث يعيث .

فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا : { فَصُرْهُنّ إلَيْكَ } سواء معناه إذا قرىء بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيّ به في هذا الموضع التقطيع ، قالوا : وهما لغتان : إحداهما صَار يَصُور ، والأخرى صَار يَصِير ، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل ، وببيت المعلى بن جمّال العبدي :

وجاءَتْ خِلْعَةٌ دُهْسٌ صَفايَا *** يَصُورُ عُنُوقَها أحْوَى زَنِيمُ

بمعنى يفرق عنوقها ويقطعها ، وببيت خنساء :

*** لظلت الشّمُ منها وَهْيَ تنصارُ ***

يعني بالشمّ : الجبال أنها تتصدّع وتتفرّق . وببيت أبي ذؤيب :

فانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وسَدّ فُرُوجَهُ *** غُبْرٌ ضَوَارٍ وافيانِ وأجْدَعُ

قالوا : فلقول القائل : صُرْت الشيء معنيان : أملته ، وقطعته ، وحكوا سماعا : صُرْنا به الحكم : فصلنا به الحكم .

وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين من أن معنى الضم في الصاد من قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } والكسر سواء بمعنى واحد ، وأنهما لغتان معناهما في هذا الموضع فقطعهن ، وأن معنى إليك تقديمها قبل فصرهن من أجل أنها صلة قوله : «فخذ » ، أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويي الكوفيين الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت ، لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله : { فَصُرْهُنّ } غير خارج من أحد معنيين : إما قطّعهنّ ، وإما اضممهنّ إليك ، بالكسر قرىء ذلك أو بالضم . ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها ، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين أعني الكسر والضم ، أوضح الدليل على صحة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول ، وخطأ قول نحويي الكوفيين¹ لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله : { فَصُرْهُنّ } بمعنى فقطعهن ، على أن أصل الكلام فأصرهنّ ، ثم قلبت فقيل فصِرهن بكسر الصاد لتحوّل ياء فأصرهن مكان رائه ، وانتقال رائه مكان يائه ، لكان لا شك مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم ، قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرىء بكسر صاده ، وبينه إذا قرىء بضمها ، إذ كان غير جائز لمن قلب فأصرهن إلى فصِرْهُن أن يقرأه فصرهن بضم الصاد ، وهم مع اختلاف قراءتهم ذلك قد تأوّلوه تأويلاً واحدا على أحد الوجيهن اللذين ذكرنا . ففي ذلك أوضح الدليل على خطأ قول من قال : إن ذلك إذا قرىء بكسر الصاد بتأويل التقطيع مقلوب من صَرِيَ يَصْرَى إلى صار يصير ، وجهل من زعم أن قول القائل صار يصور وصار يصير غير معروف في كلام العرب بمعنى قطع .

ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره : { فَصُرْهُنّ } أنه بمعنى فقطعهنّ .

حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { فَصُرْهُنّ } قال : هي نبطية فشققهن .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : { فَخُذْ أرْبَعَةً مِنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } قال : إنما هو مثل . قال : قطعهنّ ثم اجعلهن في أرباع الدنيا ، ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ثم ادعهنّ يأتينك سعيا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَصُرْهُنّ } قال : قطعهن .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } يقول : قطعهن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : { فَصُرْهُنّ } قال : قال جناح ذه عند رأس ذه ، ورأس ذه عند جناح ذه .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم أبو عمرو ، عن عكرمة في قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } قال : قال عكرمة بالنبطية : قطعهن .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن يحيى ، عن مجاهد : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } قال : قطعهن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَصْرُهُنّ إِلَيْكَ } انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا ، ثم اخلط لحومهن بريشهن .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } قال : انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَصْرُهُنّ إِلَيْكَ } أمر نبيّ الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } قال : فمزّقهن ، قال : أمر أن يخلط الدماء بالدماء ، والريش بالريش ، ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } يقول : فشققهن وهو بالنبطية صرّى ، وهو التشقيق .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } يقول قطعهن .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } يقول قطعهن إليك ومزّقهن تمزيقا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } أي قطعهن ، وهو الصّوْر في كلام العرب .

ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } أنه بمعنى فقطعهن إليك ، دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك ، وفساد قول من خالفنا فيه . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارىء ذلك بضم الصاد فصُرْهن إليك أو كسرها فصِرْهن إذْ كانت اللغتان معروفتين بمعنى واحد ، غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن أحبهما إليّ أن أقرأ به «فصُرْهن إليك » بضم الصاد ، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما وأكثرهما في أحياء العرب . وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى أوثق . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } صرهن : أوثقهن .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء قوله : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } قال : اضممهنّ إليك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } قال : اجمعهن .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا ثُمّ ادْعُهُنّ يأتِينَكَ سَعْيا } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { ثُمّ اجْعَل على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } فقال بعضهم : يعني بذلك على كل ربع من أرباع الدنيا جزءا منهن . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس : { ثُمّ اجْعَلْ عَلى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } قال : اجعلهن في أرباع الدنيا : ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } قال : لما أوثقهن ذبحهن ، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : قال : أمر نبيّ الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن ، ثم يجزئهن على أربعة أجبل ، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن ، وأمسك برؤوسهن بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبَضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم . ثم دعاهن فأتينه سعيا على أرجلهن ، ويلقي كل طير برأسه . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم . يقول : كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذبحهن ، ثم قطعهن ، ثم خلط بين لحومهن وريشهن ، ثم قسمهن على أربعة أجزاء ، فجعل على كل جبل منهن جزءا ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم ، ثم دعاهن فأتينه سعيا ، يقول : شدّا على أرجلهن . وهذا مثل أراه الله إبراهيم ، يقول : كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة ، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذ الأطيار الأربعة ، ثم قطع كل طير بأربعة أجزاء ، ثم عمد إلى أربعة أجبال ، فجعل على كل جبل ربعا من كل طائر ، فكان على كل جبل ربع من الطاووس ، وربع من الديك ، وربع من الغراب وربع من الحمام . ثم دعاهن فقال : تعالين بإذن الله كما كنتم ! فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن ، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه ، ثم أقبلن إليه سعيا ، كما قال الله . وقيل : يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد ، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها ، وشامها ويمنها . فأراه الله إحياء الموتى بقدرته ، حتى عرف ذلك بغير ما قال نمروذ من الكذب والباطل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { ثُمّ اجْعَلْ عَلى كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } قال : فأخذ طاووسا ، وحمامة ، وغرابا ، وديكا ، ثم قال : فرّقهن ، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الاَخر وجناحي الاَخر ورجلي الاَخر معه ! فقطعهن وفرّقهن أرباعا على الجبال ، ثم دعاهن فجئنه جميعا ، فقال الله : كما ناديتهن فجئنك ، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعد هذا ، فكذلك أجمع هؤلاء أيضا¹ يعني الموتى .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة ، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها . وقالوا : كانت سبعة أجبال . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما قال إبراهيم ما قال عند رؤيته الدابة التي تفرّقت الطير والسباع عنها حين دنا منها ، وسأل ربه ما سأل ، قال : فخذ أربعة من الطير قال ابن جريج : فذبحها ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا حيث رأيت الطير ذهبت والسباع ! قال : فجعلهن سبعة أجزاء ، وأمسك رءوسهن عنده ، ثم دعاهن بإذن الله ، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى ، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى ، وكل بَضعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رءوس الجبال ، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضا في السماء ، ثم أقبلن يسعين حتى وصلت رأسها .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ، ثم اجعل على سبعة أجبال ، فاجعل على كل جبل منهن جزءا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير ، فقطعهن أعضاء ، لم يجعل عضوا من طير مع صاحبه ، ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا ، وصدر هذا مع جناح هذا ، وقسمهن على سبعة أجبال ، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه ، ثم أقبلن إليه جميعا .

وقال آخرون : بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } قال : ثم بدّدهن على كل جبل يأتينك سعيا ، وكذلك يحيي الله الموتى .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، كذلك يحيي الله الموتى¹ هو مثل ضربه الله لإبراهيم .

حدثنا القاسم ، ثال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : { ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } ثم بدّدهن أجزاء على كل جبل ، ثم ادعهن : تعالين بإذن الله ! فكذلك يحيي الله الموتى¹ مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى ، قال : ثني إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : أمره أن يخالف بين قوائمهن ورءوسهن وأجنحتهن ، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا .

« حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن .

( وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد ، وهو أن الله تعالى ذكره أمر إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريق ذلك وتبديدها عليها أجزاء ، لأن الله تعالى ذكره قال له : { ثُمّ اجْعَلْ على كُلّ جَبَلٍ مِنْهُنّ جُزْءا } والكل حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه لفظه واحد ومعناه الجمع . فإذا كان ذلك كذلك فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيم بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة عليه خارجة من أحد معنيين : إما أن تكون بعضا أو جميعا¹ فإن كانت بعضا فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم السبيل إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه . أو يكون جميعا ، فيكون أيضا كذلك . وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على كل جبل ، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن ، وإما ما في الأرض من الجبال .

فأما قول من قال : إن ذلك أربعة أجبل ، وقول من قال : هنّ سبعة¹ فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجير القول به . وإنما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرّقة على كل جبل ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهن متفرّقات متبددات في أماكن مختلفة شتّى ، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض ، فيعدن كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال أطيارا أحياء يطرن ، فيطمئنّ قلب إبراهيم ويعلم أن كذلك يجمع الله أوصال الموتى لبعث القيامة وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الرد . والجزء من كل شيء هو البعض منه كان منقسما جميعه عليه على صحة أو غير منقسم ، فهو بذلك من معناه مخالف معنى السهم¹ لأن السهم من الشيء : هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة ، ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءهم من المواريث السهام دون الأجزاء .

وأما قوله : { ثُمّ ادْعُهُنّ } فإن معناه ما ذكرت آنفا عن مجاهد أنه قال : هو أنه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل تعالين بإذن الله .

فإن قال قائل : أمر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزّقات أجزاء على رءوس الجبال أمواتا ، أم بعد ما أحيين ؟ فإن كان أمر أن يدعوهن وهن ممزّقات لا أرواح فيهنّ ، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال ؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين ، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن وقد أبصرهن ينشرن على رءوس الجبال ؟ قيل : إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيم صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرّقات إنما هو أمر تكوين ، كقول الله للذين مسخهم قردة بعد ما كانوا إنسا : { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } لا أمر عبادة ، فيكون محالاً إلا بعد وجود المأمور المتعبد .

( القول في تأويل قوله تعالى : { وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

يعني تعالى ذكره بذلك : واعلم يا إبراهيم أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهنّ ، وتفريقك أجزاءهنّ على الجبال ، فجمعهن وردّ إليهن الروح ، حتى أعادهن كهيئتهن قبل تفريقهن ، { عَزِيزٌ } في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة الذين خالفوا أمره ، وعصوا رسله ، وعبدوا غيره ، وفي نقمته حتى ينتقم منهم ، { حَكِيمٌ } في أمره .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق : { وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قال : عزيز في بطشه ، حكيم في أمره .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ } في نقمته { حَكِيمٌ } فِي أمره .