وبعد هذا الحديث الذى ترتجف له القلوب . . . أتبع القرآن ذلك بحديث آخر تسر له النفوس ، وتنشرح له الصدور ، فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . } .
الحسنى : تأنيث الأحسن ، وهى صفة لموصوف محذوف .
أى : إن الذين سبقت لهم منا فى دنياهم المنزلة الحسنى بسبب إيمانهم الخالص وعملهم الصالح ، وقولهم الطيب .
{ أولئك } المصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَنْهَا مُبْعَدُونَ } أى : عن النار وحرها وسعيرها . . . مبعدون إبعادا تاما بفضل الله - تعالى - ورحمته .
وأما قوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به ، فقال بعضهم : عُني به كل من سبقت له من الله السعادة من خلقه أنه عن النار مُبعد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن سعد وليس بابن ماهَك عن محمد بن حاطب ، قال : سمعت عليّا يخطب فقرأ هذه الاَية : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ . قال : عثمان رضي الله عنه منهم .
وقال آخرون : بل عُني : من عُبد مِن دون الله ، وهو لله طائع ولعبادة من يَعبد كاره . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى . وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ قال : عيسى ، وعُزَير ، والملائكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال ابن جُرَيج : قوله : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ثم استثنى فقال : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، والحسن البصري قالا : قال في سورة الأنبياء : إنّكُمْ وَما تَعْبُدونَ مِنْ دونِ اللّهِ حَصَب جَهَنمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدونَ لَوْ كانَ هَؤلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ثم استثنى فقال : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فقد عُبدت الملائكة من دون الله ، وعُزَيرٌ وعيسى من دون الله .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ قال : عيسى .
حدثني إسماعيل بن سيف ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى قال : عيسى ، وأمه ، وعُزَير ، والملائكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، وكلّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَهاَ وَارِدُونَ لَوْ كان هَؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وكُلّ فِيها خالِدُونَ . . . . إلى قوله : وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ . ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزّبَعْرَي بن قيس بن عدي السهميّ حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزّبَعْري : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حَصَب جهنم فقال عبد الله بن الزّبَعْري : أما والله لو وجدته لخصَمته فسلوا محمدا : أكلّ من عبد من دون الله في جهنم مع من عَبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عُزَيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم . فعجب الوليد بن المغيرة ومن كان في المجلس من قول عبد الله بن الزّبَعْري ، ( ورأوا أنّه قد احتجّ وخاصم . فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قول ابن الزبعري ، فقال ) رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَعَمْ كُلّ مَنْ أحَبّ أنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ ، إنّمَا يَعْبَدُونَ الشّياطِينَ وَمَنْ أمَرَهُمْ بعِبادَتهِ » . فأنزل الله عليه : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ . . . إلى : خالِدُونَ أي عيسى ابن مريم ، وعُزير ، ومن عَبدوا من الأحبار والرهبان الذي مضَوا على طاعة الله ، فاتخذهم مَنْ بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله . فأنزل الله فيما ذكروا أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله : وَقالُوا اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدا سُبْحانَهَ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمونَ . . . إلى قوله : نَجْزِي الظّالِمينَ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك ، قال : يقول ناس من الناس إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ يعني من الناس أجمعين . فليس كذلك ، إنما يعني من يعبد الاَلهة وهو لله مطيع مثل عيسى وأمه وعُزَير والملائكة ، واستثنى الله هؤلاء الاَلهة المعبودة التي هي ومَنْ يعبدها في النار .
حدثنا ابن سِنان القزاز ، قال : حدثنا الحسن بن الحسين الأشقر ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدُون قال المشركون : فإن عيسى يُعبد وعُزَير والشمس والقمر يُعبدون فأنزل الله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لعيسى وغيره .
وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قول من قال : عني بقوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ما كان من معبود كان المشركون يعبدونه والمعبود لله مطيع وعابدوه بعبادتهم إياه بالله كفّار لأن قوله تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى ابتداء كلام محقق لأمر كان ينكره قوم ، على نحو الذي ذكرنا في الخبر عن ابن عباس ، فكأن المشركين قالوا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ : ما الأمر كما تقول ، لأنا نعبد الملائكة ، ويعبد آخرون المسيح وعُزَيرا . فقال عزّ وجلّ ردّا عليهم قولهم : بل ذلك كذلك ، وليس الذي سبقت لهم منا الحسنى هم عنها مبعدون ، لأنهم غير معنيين بقولنا : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ . فأما قول الذين قالوا ذلك استثناء من قوله : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ فقول لا معنى له لأن الاستثناء إنما هو إخراج المستثنى من المستثنى منه ، ولا شكّ أن الذين سبقت لهم منا الحسنى إنما هم إما ملائكة وإما إنس أو جانّ ، وكلّ هؤلاء إذا ذكرتها العرب فإن أكثر ما تذكرها ب «من » لا ب «ما » ، والله تعالى ذكره إنما ذكر المعبودين الذين أخبر أنهم حَصَب جهنم ب «ما » ، قال : إنّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ إنما أريد به ما كانوا يعبدونه من الأصنام والاَلهة من الحجارة والخشب ، لا من كان من الملائكة والإنس . فإذا كان ذلك كذلك لما وصفنا ، فقوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى جواب من الله للقائلين ما ذكرنا من المشركين مبتدأ . وأما الحُسنى فإنها الفُعلى من الحسن ، وإنما عني بها السعادة السابقة من الله لهم . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنَى قال : الحسنى : السعادة . وقال : سبقت السعادة لأهلها من الله ، وسبق الشقاء لأهله من الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.