وقوله - تعالى - { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً } تأكيد لنفى أن يقول أحد من البشر الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة للناس اعبدونى من دون الله ، وتنزيه لساحتهم عن أن يأمروهم بعبادة غير الله .
وقوله { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } وردت فيه قراءتان مشهورتان .
أما القراءة الأولى فبفتح الراء عطفا على { يَقُولَ } فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ } وتكون " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفى فى قوله { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } ويكون فى الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب .
والمعنى على هذه القراءة : ما كان لبشر أن يؤتية الله ما ذكر ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ، أو يأمرهم باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، وذلك كقولك ما كان لزيد أن أكره ثم يهيننى ويستخف بى . وبهذه القراءة قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم .
وعلى هذه القراءة يكون توسيط الاستدراك بين المعطوف والمعطوف عليه ، للمسارعة إلى تحقيق الحق ، ولبيان ما يليق بشأنه ويحق صدوره عنه .
وأما القراءة الثانية فقد قرأها الباقون برفع الراء فى { يَأْمُرَكُمْ } فتكون الجملة مستأنفة ، والمعنى : ولا يأمركم هذا البشر الذى أعطاه الله ما أعطاه من نعمة أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا .
وخصص الملائكة والنبيين بالذكر لأن عبادتهما قد شاعت عند كثير من الناس ، فقد وقع فى عبادة الملائكة " الصابئة " الذين كانوا يقيمون فى بلاد الكلدان ، وتبعهم بعض المشركين من العرب . ووقع فى عبادة بعض النبيين كثير من النصارى فقد اتخذوا المسيح إلها يعبد وزعموه ابن الله وكثير من اليهود عبدوا عزيزاً وزعموه ابن الله .
والاستفهام فى قوله { أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } للإنكار الذى بمعنى النفى .
أى : أن الرسل الكرام لا يمكن أن يأمروا الناس بالكفر بالله بعد أن هداهم الله - تعالى - عن طريق هؤلاء الرسل إلى أن يكونوا مسلمين .
فالجملة الكريمة تأكيد بأبلغ وجه لنفى أن يأمر الرسل الناس بعبادة غير الله ، وتنزيه لساحتهم عن أن يقولوا قولا أو يأمروا بأمر يخالف ما تلقوه عن له - تعالى - من إفراده بالعبادة والطاعة والخضوع .
قال بعضهم : وإذا كان ما ذكر في الآيتين لا يصلح لنبى ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ، ولهذا قال الحسن البصرى : لا ينبغى هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته . ثم قال : وذلك أن القوم - يعنى أهل الكتاب - كان يعبد بعضهم بعضا كما قال - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } .
فالجهلة من الأحبار والرهبان يدخلون فى هذا الذم ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنهم إنما يأمرون بما أمر الله به ، وينهون عما نهى الله - تعالى - عنه ولذلك سعدوا وفازوا " .
{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مّسْلِمُونَ }
اختلفت القراء في قراءة قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } ، فقرأته عامة قراء الحجاز والمدينة : «وَلاَ يَأْمُرُكُمْ » على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ لاَ يَأْمُرُكُمْ أيّها النّاسُ أنْ تَتّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنّبِيّينَ أرْبابا . واستشهد قارئوا ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها وهي : «ولن يأمركم » فاستدلوا بدخول لن على انقطاع الكلام عما قبله ، وابتداء خبر مستأنف . قالوا : فلما صير مكان «لن » في قراءتنا «لا » وجبت قراءته بالرفع . وقرأه بعض الكوفيين والبصريين : { وَلا يَأْمُرَكُمْ } بنصب الراء عطفا على قوله : { ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ } . وكان تأويله عندهم : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب ، ثم يقول للناس ولا أن يأمركم ، بمعنى : ولا كان له أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } بالنصب على الاتصال بالذي قبله ، بتأوّل : { ما كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِيَهُ اللّهُ الكِتابَ وَالحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبادا لي مِنْ دُونِ اللّهِ } ولا أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا . لأن الاَية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريد أن نعبدك ؟ فأخبرهم الله جلّ ثناؤه أنه ليس لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه ، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، ولكن الذي له أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين . فأما الذي ادّعى من قرأ ذلك رفعا أنه في قراءة عبد الله : «ولن يأمركم » استشهادا لصحة قراءته بالرفع ، فذلك خبر غير صحيح سنده ، وإنما هو خبر رواه حجاج عن هارون لا يجوز أن ذلك في قراءة عبد الله كذلك . ولو كان ذلك خبرا صحيحا سنده ، لم يكن فيه لمحتجّ حجة ، لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاء به المسلمون وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم لا يجوز تركه لتأويل على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو .
فتأويل الاَية إذا : وما كان للنبيّ أن يأمر الناس أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله ، كما ليس له أن يقول لهم كونوا عبادا لي من دون الله . ثم قال جلّ ثناؤه نافيا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بذلك : أيأمركم بالكفر أيها الناس نبيكم بجحود وحدانية الله بعد إذ أنتم مسلمون ، يعني بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة متذللون له بالعبودية ، أي إن ذلك غير كائن منه أبدا . وقد :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ولا يأمركم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا .
{ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا } نصبه ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب عطفا على ثم يقول ، وتكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله { ما كان } ، أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، أو غير مزيدة على معنى أنه ليس له أن يأمر بعبادته ولا يأمر باتخاذ أكفائه أربابا ، بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة . ورفعه الباقون على الاستئناف ، ويحتمل الحال وقرأ أبو عمرو على أصله برواية الدوري باختلاس الضم . { أيأمركم بالكفر } إنكار ، والضمير فيه للبشر وقيل لله . { بعد إذ أنتم مسلمون } دليل على أن الخطاب للمسلمين وهم المتسأذنون لأن يسجدوا له .
في قوله : { ولا يأمركم } التفات من الغيبة إلى الخطاب .
وقرأ الجمهور « يأمُرُكم » بالرفع على ابتداء الكلام ، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي ، فإنه لما وقع بعد فعل منفي ، ثم انتقض نفيه بلكن ، احتيج إلى إعادة حرف النفي ، والمعنى على هذه القراءة واضح : أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا إلخ ولا هو يأمُرهم أن يتخذوا الملائكة أرباباً . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ويعقوب ، وخلف : بالنصب عطفاً على أن يقولَ ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله : { ما كان لبشر } ، وليست معمولة لأنْ : لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى : لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألاّ يأمركم أن تتخذوا ، والمقصود عكس هذا المعنى ، إذ المقصود أنه لا ينبغي له أن يأمر ، فلذلك اضطرّ في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد . وقرأه الدُّوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون .
ولعلّ المقصود من قوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة ، فصوّروا صور النبيئين ، مثل يحيى ومريم ، وعبدوهما ، وصوّروا صور الملائكة ، واقتران التصوير مع الغلوّ في تعظيم الصورة والتعبد عندها ضربٌ من الوثنية .
قال ابن عرفة : « إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل ويَنهاكم . والجواب أنّ ذلك باعتبار دعواهم وتقوّلهم على الرسل » . وأقول : لعلّ التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله : { ثم يقول للناس } لأنهم زعموا أنّ المسيح قال : إنه ابنُ الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرُهم باتخاذ الملائكة أرباباً ، أو لأنهم لما كانوا يدّعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه ، أو لأنّ المسيح لم ينههم عن ذلك في نفس الأمر ، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر ، في الردّ على الأمة ، على أنّ أنبياءهم لم يَأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري ، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة ، وهي قوله : { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } .
فهناك سببان لإنكار أن يكونَ ما هم عليه مُرضياً أنبياءهم ؛ فإنه كفر ، وهم لا يرضون بالكفر . فما كان من حقّ من يتبعونهم التلبُّس بالكفر بعد أن خرجوا منه .
والخطاب في قوله : { ولا يأمركم } التفات من طريقة الغيبة في قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } فالمواجَه بالخطاب هم الذين زعموا أنّ عيسى قال لهم : كونوا عباداً لي من دون الله .
فمعنى { أنتم مسلمون } يقتضي أنّهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام . فقيل : أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله { بالكفر } .
وقيل الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله : { إذ أنتم مسلمون } لأنّ اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن ، فهذا الذي جرّأ من قالوا : إنّ الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم « ألاَ نسجد لك » ، ولا أراه لو كان صحيحاً أن تكون الآية قاصدة إياه ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل : ثم يأمر الناس بالسجود إليه ، ولما عرّج على الأمر بأن يكونوا عباداً له من دون الله ولا بأن يتّخذوا الملائكة والنبيين أرباباً .