التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَإِذۡ قِيلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ وَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةٞ وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِيٓـَٰٔتِكُمۡۚ سَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (161)

وقوله - تعالى - { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً } . . . الخ . تذكير لهم بصفة جليلة مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ، وما رعوها حق رعايتها ، وهى نعمة تمكينهم من دخول بيت المقدس ونكولهم عن ذلك .

قال الآلوسى : وقوله { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } معمول لفعل محذوف تقديره : اذكر . وإيراد الفعل هنا مبنيا للمفعول جريا على سنن الكبرياء " مع الإيذان بأن الفاعل غنى عن الصريح . أى : أذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم " .

والقرية هى البلدة المشتملة على مساكن ، والمراد بها هنا بيت المقدس - على الراجح - وقيل المراد بها أريحاء .

والحطة : كجلسة ، اسم للهيئة ، من الحط بمعنى الوضع والإنزال ، وأصله إنزال الشىء من علو . يقال : استحطه وزره : سأله أن يحطه عنه وينزله .

وهى خبر مبتدأ محذوف أى : مسألتنا حطة ، والأصل فيها النصب بمعنى : حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات .

والمعنى : واذكروا أيها المعاصرون للعهد النبوى من بنى إسرائيل وقت أن قيل لأسلافكم اسكنوا قرية بيت المقدس بعد خروجهم من التيه ، وقيل لهم كذلك كلوا من خيراتها أكلا واسعا ، وأسالوا الله أن يحط عنكم ذنوبكم ، وادخلوا من بابها خاضعين خاشعين شكرا لله على نعمه ، فإنكم إن فعلتم ذلك غفرنا لكم خطيئاتكم .

وقوله - تعالى - { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها ، حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أى مكان شاءوا .

وقوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً } إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم عمله نحو خالقهم ، وتوجههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم بأيسر الطرق وأسهل السبل لأن كل ما كلفهم الله - تعالى - به أن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم خطيئاتهم ، وأن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله عليهم مخبتين .

وقوله { نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم } مجزوم في جواب الأمر .

وهذه الجملة الكريمة بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم وإغراء لهم على الامتثال والشكر - لو كانوا يعقلون - لأن غاية ما يتمناه العقلاء هو غفران الذنوب .

وقوله - تعالى - { سَنَزِيدُ المحسنين } وعد بالزيادة من خيرى الدنيا والآخرة لمن أسلم وجهه لله وهو محسن .

وقد أمر الله - تعالى - أن يفعلوا ذلك ، وأن يقولوا هذا القول ، لأن تغلبهم على أعدائهم نعمة من أجل النعم التي تستدعى منهم الشكر الجزيل لله - تعالى - . ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع ، وأسمى ألوان الشكر عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب ، فعندما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العلاي وهو خاضع لربه ، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكرا لله على نعمة الفتح ، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلى ثمانى ركعات سماها بعض الفقهاء صلاة الفتح .

ومن هنا استحب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثمانى ركعات عند أول دخولها شكرا لله ، وقد فعل ذلك سعد بن أبى وقاص عندما دخل إيوان كسرى . فقد ثبت أنه صلى بداخله ثمانى ركعات .

ولكن ماذا كان من بنى إسرائيل بعد أن أتم الله لهم نعمة الفتح .