اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قِيلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ وَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُواْ حِطَّةٞ وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِيٓـَٰٔتِكُمۡۚ سَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (161)

قوله تعالى : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية } الآيةُ .

اعلم أنَّ هذه القصة قد تقدَّمت مشروحة في سورة البقرةِ إلاَّ أنَّ بينهما تفاوتاً من وجوه :

أحدها : أنَّهُ عيَّن القائل في سورة البقرة ، فقال وإذْ قُلْنا وههنا أبهمه فقال وَإذْ قيلَ .

وثانيها : قال في سورة البقرة " ادخلوا " وقال هاهنا " اسكنوا " .

وثالثها : قال في سورة البقرة فَكُلوا بالفاء ، وههنا بالواو .

ورابعها : قال هناك رَغَداً وأسقطها ههنا .

وخامسها : قدَّم هناك قوله { وادخلوا الباب سُجَّداً } على " وقولُوا حِطَّةٌ " وههنا على العكس .

وسادسها : قال في البقرة { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } وههنا " خطِيئَاتِكُمْ " .

وسابعها : قال هنا : " وسَنزِيدُ المُحْسنينَ " بالواو وههنا حذفها .

وثامنها : قال في البقرة " فأنزلْنَا " وههنا " فأرْسَلْنَا " .

وتاسعها : قال هناك : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } . وقال ههنا " يَظْلِمُونَ " .

وهذه ألفاظٌ لا منافاةَ بينها ألبتة ، ويمكن ذكر فوائِدهَا .

أما قوله ههنا : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } إعلاماً للسَّامع بان هذا القائل هو ذاك ، وأمَّا قوله هناك " ادْخُلُوا " ، وههنا " اسْكُنُوا " فالفرقُ أنَّهُ لا بدَّ من دخول القريَةِ أوَّلاً ، ثم سكونها ثانياً .

وأمَّا قوله هنا " فَكُلُوا " بالفاءِ وههنا بالواوِ ، فالفرق أنَّ الدُّخُولَ حالة مخصوصة ، كما يوجد بعضها ينعدم ، فإنَّهُ إنَّما يكون داخلاً في أوَّل دخوله .

وأمَّا بعد ذلك ، فيكون سكنى لا دخولاً ، وإذا كان كذلك فالدَّخُولُ حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار ، فحسن ذكر فاء التعقيب بعده ، فلهذا قال { ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ } وأمَّا السُّكْنَى فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معها لا عقيبها فحصل الفرق .

وأمَّا قوله هناك " رغَداً " ولم يذكره هنا ؛ لأنَّ الأكْلَ عقيب دخول القرية يكون ألذ ؛ لأنَّهُ وقت الحاجةِ الشديدةِ ، فلذلك ذكر رَغَداً وأما الأكل حالة السُّكنى ، فالظَّاهِرُ أنَّ الحاجة لا تكونُ شديدة .

وأمَّا قوله هناك : { وَادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة } وههنا على العكس ، فالمرادُ التَّنبيهُ على أنَّهُ يحسن تقديم كل واحد منهما على الآخر ، لأنَّ المقصُودَ منهما تعظيم اللَّهِ تعالى وإظهار الخُضُوعِ ، وهذا لا يتفاوتُ الحال فيه بحسب التَّقديم والتَّأخير .

قال الزمخشريُّ : التَّقديمُ والتأخيرُ في وقُولُوا وادخُلُوا سواء قدَّمُوا " الحِطَّة " على دخول الباب ، أو أخَّرُوها فهم جامعون في الإيجاد بينهما .

قال أبُو حيَّان : وقوله : سواءٌ قدَّمُوا أو أخَّرُوها تركيب غير عربي ، وإصلاحه سواء أقدَّمُوا أمْ أخَّرُوا ، كما قال تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } [ إبراهيم : 21 ] .

فصل

قال شهابُ الدِّين{[16904]} : يعني كونه أتى بعد لفظ " سواء " ب " أوْ " دون " أمْ " ، ولم يأتي بهمزة التسوية بعد " سواء " وقد تقدَّم أنَّ ذلك جائز ، وإن كان الكثيرُ ما ذكره وأنه قد قرئ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] والرَّدُ بمثل هذا غير " طائل " .

وأما قوله في البقرة { خَطَايَاكُمْ } وههنا " خَطِيئَاتِكُم " فهو إشارة على أنَّ هذه الذنوب سواء كانت قليلة ، أو كثيرة ، فهي مغفورةٌ عند الإتيان بهذا الدُّعاء .

وأما قوله هناك " وسَنَزِيدُ " بالواوِ ، وههُنَا حذفها ففائدته أنه استئناف ، كأنَّ قائلاً قال : وماذا حصل بعد الغُفْرانِ ؟

فقيل له : " سَنَزِيدُ المُحْسنينَ " .


[16904]:ينظر : الدر المصون 3/359.