فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ} (38)

{ أفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى( 33 ) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى( 34 ) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى( 35 ) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ( 36 )وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ( 37 )أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( 38 ) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى( 39 ) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى( 40 ) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى( 41 ) } .

تعجيب من أمر من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين { تولى } أعرض ، { وأكدى } وقطع البذل والبر والعطاء- من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر- قال مجاهد وابن زيد : نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام ، وطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين ، وقال له : أتترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة ، لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال ، فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عما همّ به من الإسلام ، وضل ضلالا بعيدا ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح .

أعنده علم الآخرة فهو يرى أن العذاب مصروف عنه ، وذاهب إلى من ضمن حمل العذاب يومذاك ؟ أعند هذا المكدى ما يرى به الغيب كما يرى المشاهَد فهو لذلك مطمئن إلى أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه ؟ بل ألم تأته أخبار وأنباء صحف موسى وصحف إبراهيم الذي بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه ووفّر وأتمّ ما أُمر به-قال ابن عباس : وفيّ بسهام الإسلام كلها . . . وهي ثلاثون سهما ، منها عشرة في سورة براءة : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم . التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين }{[5785]} وعشرة في سورة الأحزاب : { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما }{[5786]} وست في ( المؤمنون ) : { الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون . والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم على صلواتهم يحافظون }{[5787]} وأربع في سورة ( المعا رج ) : { والذين في أموالهم حق معلوم . للسائل والمحروم . والذين يصدقون بيوم الدين . والذين هم من عذاب ربهم مشفقون }{ والذين هم بشهادتهم قائمون }{[5788]}- ثم أليس قد وفى عليه الصلاة والسلام حين اختبره الله تعالى بذبح ولده ؟ وما أعظمه من وفاء . { أن لا تزر وازرة وزر أخرى } ففي صحف إبراهيم وموسى-عليهما السلام- أنه لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى لتخلصها من العقاب ، فلا يجزى والد عن ولده { . . . . ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . . }{[5789]} . . بل كل نفس بما كسبت مرتهنة ومحبوسة ومؤاخذة ، وما جاء في القرآن الحكيم من توكيد سؤال ناس عن خطايا آخرين وعقابهم بها فإنما يفعل بهم ذلك لأنهم تسببوا في إضلالهم : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون }{[5790]}{ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم . . }{[5791]} .

[ { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } بينت الآية الكريمة السابقة أنه لا يحمل أحد خطايا أحد-إلا دعاة الضلال- وهذه هدت إلى عدم إثابة أحد بعمل غيره- إلا بفضل الله-{ فأن } مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة المنفية خبرها ، و{ ما } مصدرية أو موصولة [ أي ليس له إلا سعيه أو إلا الذي سعى به ، وفعله- واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت منها ما أخرجه مسلم ، والبخاري . . عن عائشة : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها وإني أظنها لو تكلمت تصدقت ، فهل لها من أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : " نعم " وكذا ينفع الحج ، أخرج البخاري ومسلم . . عن ابن عباس قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : " لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم . قال : " فحق الله أحق بالقضاء " ]{[5792]} .

ورواية مسلم في- باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو الموت- عن الفضل أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فحجي عنه " ، وفيه بسنده في باب قضاء الصوم عن الميت-عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ، فقال : " أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه " ؟ قالت : نعم قال : " فدين الله أحق بالقضاء " هذه رواية إسحق بن إبراهيم ، ورواية إسحق بن منصور عنه : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ؟ إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدى ذلك عنها " ؟ قالت : نعم قال : : " فصومي عن أمك " .

{ وأن سعيه سوف يرى } يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء ، يعرض عليه ما اكتسب من البر والإثم مسجلا في صحائفه ماثلا في ميزانه { . . فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون . . }{[5793]}- وفي البحر : يراه حاضروا القيامة ويطلعون عليه ، تشريفا للمحسن ، وتوبيخا للمسيء-{[5794]} .

{ ثم يُجزاه الجزاء الأوفى } وبعد مشاهدة أهل الموقف عمل كل عامل يجزى العامل سعيه جزاء أوفى ما يكون ، لا يبخس ولا ينقص شيئا-وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل ، ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصال . . . - .


[5785]:الآيتان:112،111.
[5786]:الآية 35.
[5787]:الآيات: من 2إلى 9.
[5788]:الآيات:27،26،25،24.والآية 33.
[5789]:سورة لقمان. من الآية 33.
[5790]:سورة العنكبوت. الآية 13.
[5791]:سورة النحل. من الآية 25.
[5792]:ما بين العارضتين مما أورد الألوسي.
[5793]:سورة التوبة. من الآية 105.
[5794]:ما بين العارضتين نقله الألوسي.