السادسة- قوله تعالى : " وثيابك فطهر " فيه ثمانية أقوال : أحدهما أن المراد بالثياب العمل . الثاني القلب . الثالث النفس . الرابع الجسم . الخامس الأهل . السادس الخلق . السابع الدين . الثامن الثياب الملبوسات على الظاهر . فمن ذهب إلى القول الأول قال : تأويل الآية وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد . وروى منصور عن أبي رزين قال : يقول وعملك فأصلح ، قال : وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب ، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب ، ونحوه عن السدي . ومنه قول الشاعر :
لا هُمَّ إن عامر بنَ جَهْمِ *** أَوْذَمَ حَجًّا في ثيابٍ دَسْمِ{[15547]}
ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما ) يعني عمله الصالح والطالح ، ذكره الماوردي . ومن ذهب إلى القول الثاني قال : إن تأويل الآية وقلبك فطهر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ، دليله قول امرئ القيس :
فسُلِّي ثيابي من ثيابك تنسل{[15548]}
أي قلبي من قلبك . قال الماوردي : ولهم في تأويل الآية وجهان : أحدهما : معناه وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي ، قاله ابن عباس وقتادة . الثاني : وقلبك فطهر من الغدر ، أي لا تغدر فتكون دنس الثياب . وهذا مروي عن ابن عباس ، واستشهد بقول غيلان بن سلمة الثقفي :
فإني بحمد الله لا ثوبَ فاجر *** لبست ولا من غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ
ومن ذهب إلى القول الثالث قال : تأويل الآية ونفسك فطهر ، أي من الذنوب . والعرب تكني عن النفس بالثياب ، قاله ابن عباس . ومنه قول عنترة :
فشككتُ بالرُّمْح الطويل ثيابَه *** ليس الكريم على القَنَا بمُحَرَّمِ
وقال{[15549]} :
ثيابُ بني عوف طَهَارَى نِقيَّةٌ *** وأوجُهُهُم بيضُ المَسَافِرِ غُرَّانُ
أي أنفس بني عوف . ومن ذهب إلى القول الرابع قال : تأويل الآية وجسمك فطهر ، أي عن المعاصي الظاهرة . ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى ، وذكرت إبلا :
رموها بأثْيَابٍ خِفَافٍ فلا تَرَى *** لها شَبَهًا إلاَّ النَّعام المُنَفَّرَا
ومن ذهب إلى القول الخامس قال : تأويل الآية وأهلك فطهرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب ، والعرب تسمي الأهل ثوبا ولباسا وإزارا ، قال الله تعالى : " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " [ البقرة : 187 ] . الماوردي : ولهم في تأويل الآية وجهان : أحدهما : معناه ونساءك فطهر ، باختيار المؤمنات العفائف . الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر ، في الطهر لا في الحيض . حكاه ابن بحر . ومن ذهب إلى القول السادس قال : تأويل الآية وخلقك فحسن قاله الحسن والقرظي ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه . وقال الشاعر :
ويحيَى لا يُلامُ بسوء خُلْقٍ *** ويَحْيَى طَاهِرُ الأثوابِ حُرُّ
أي حسن الأخلاق . ومن ذهب إلى القول السابع قال : تأويل الآية ودينك فطهر . وفي الصحيحين عنه عليه السلام قال : ( ورأيت الناس وعليهم ثياب ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما دون ذلك ، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجره ) . قالوا : يا رسول الله فما أولت ذلك ؟ قال : الدين . وروى ابن وهب عن مالك أنه قال : ما يعجبني أن أقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الطريق ، قال الله تعالى : " وثيابك فطهر " يريد مالك أنه كنى عن الثياب بالدين . وقد روى عبد الله بن نافع عن أبي بكر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن مالك بن أنس في قوله تعالى : " وثيابك فطهر " أي لا تلبسها على غدرة ، ومنه قول أبي كبشة{[15550]} :
ثيابُ بني عوف طَهَارَى نقيَّةٌ *** وأوجهُهُم بيضُ المَسَافِرِ غُرَّانُ
يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم من الدناءات ، ويعني بغرة وجوههم تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة أو كليهما ، قاله ابن العربي . وقال سفيان بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ، قاله عكرمة . ومنه قول الشاعر :
أَوْذَمَ حَجًّا في ثيابٍ دُسْمِ
أي قد دنسها بالمعاصي . وقال النابغة :
رقاقُ النِّعال طيِّبٌ حُجُزَاتُهُمْ *** يُحَيَّوْنَ بالرَّيْحَانِ يومَ السَّبَاسِبِ{[15551]}
ومن ذهب إلى القول الثامن قال : إن المراد بها الثياب الملبوسات ، فلهم في تأويله أربعة أوجه : أحدهما : معناه وثيابك فأنق ، ومنه قول امرئ القيس :
الثاني : وثيابك فشمر وقصر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة ، فإذا انجرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها ، قاله الزجاج وطاوس . الثالث : " وثيابك فطهر " من النجاسة بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء . الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال لتكون مطهرة من الحرام . وعن ابن عباس : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر . ابن العربي وذكر بعض ما ذكرناه : ليس بممتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة فهي تتناول معنيين : أحدهما : تقصير الأذيال ؛ لأنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغلام من الأنصار وقد رأى ذيله مسترخيا : ارفع إزارك فإنه أتقى وأنقى وأبقى . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إزرة المؤمن{[15552]} إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار ) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أذيالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم ، وهذه حالة الكبر ، وقائدة العجب ، ( وأشد ما في الأمر أنهم يعصون وينجسون ويلحقون أنفسهم{[15553]} ) بمن لم يجعل الله معه غيره ولا ألحق به سواه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء ) ولفظ الصحيح : ( من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) . قال أبو بكر : يا رسول الله ! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لست ممن يصنعه خيلاء ) فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي ، واستثنى الصديق ، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء{[15554]} ، وليس ذلك لهم .
والمعنى الثاني : غسلها من النجاسة وهو ظاهر منها ، صحيح فيها . المهدوي : وبه استدل بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ، قال ابن سيرين وابن زيد : لا تصل إلا في ثوب طاهر . واحتج بها الشافعي على وجوب طهارة الثوب . وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض ، وكذلك طهارة البدن ، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل . وقد مضى هذا القول في سورة " التوبة " مستوفى .
ولما كان تنزيه العبد عن الأدناس لأجل تنزيه المعبود ، قال آمراً بتطهير الظاهر والباطن باستكمال القوة النظرية في تعظيمه سبحانه ليصلح أن يكون من أهل حضرته وهو أول مأمور به من رفض العادات المذمومة : { وثيابك فطهر * } أي وقم فخص ثيابك الحسية بإبعادها عن النجاسات بمجانبة عوائد المتكبرين من تطويلها ، وبتطهيرها لتصلح للوقوف في الخدمة بالحضرة القدسية ، و{[69698]}المعنوية وهي كل ما اشتمل على العبد من الأخلاق المذمومة والعوائد السقيمة من الفترة{[69699]} عن الخدمة والضجر والاسترسال مع شيء من عوائد النفس ، وذلك يهون باستكمال القوة النظرية .
قوله : { وثيابك فطهر } اختلف أهل التأويل في المراد بتطهير ثيابه . فقد قيل : لا تلبسها على معصية . أو طهرها من المعاصي والذنوب وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات . يقال : فلان طاهر الثياب إذا وصف بالنقاء من المعايب والأدناس . وقيل : المراد طهارة الثياب من النجاسات . فطهارة الثياب شرط في صحة الصلاة وهي لا تصح إلا بها . وخليق بالمسلم الصادق أن يكون نقي الجسد والثياب ، نظيفا ، إن لم يكن أنظف من غيره من غير المسلمين . وما يليق بالمسلم أن يحمل في ثيابه أو بدنه الخبث أو النجاسة . فيكون المعنى بذلك : اغسلها بالماء ونقّها من الأدران وطهرها من النجاسة .