قوله تعالى : { قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } .
وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى ، والمعنى : أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه ، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } وهي إمَّا النبوة ، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : صارت مظنة خفيت ، والتبست عليكم .
قوله : " مِّن ربي " نعتٌ ل " بَيِّنَة " ، أي : بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي .
قوله : " رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ " يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل " رَحْمَةً " وأن يكون متعلقاً ب " آتَانِي " .
قوله : " فَعُمِّيَتْ " قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم ، والباقون{[18754]} بالفتح ، والتخفيف . فأمَّا القراءة الأولى فأصلها : عماهَا اللهُ عليكم ، أي : أبْهمها عقوبة لكم ، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله ، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل " فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم " .
ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن{[18755]} وعليّ والسُّلمي " فَعَمَاهَا " من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي .
وروي عن الأعمش وابن وثاب{[18756]} " وعُمِّيَتْ " بالواو دون الفاء .
وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً .
قال الزمخشريُّ : فإذا قلتَ ما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] جعلت عمياء ، قال تعالى : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } الآية ؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ : فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ .
وقيل : هذا من باب القلبِ ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي ، وهو كثيرٌ ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه ، وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]
تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه *** . . . {[18757]}
قال أبُو علي : وهذا ممَّا يُقْلَبُ ، إذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] .
وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ .
وأمَّا الآيةُ ف " أخْلَفَ " يتعدَّى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ .
وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب " عَنْ " دُونَ " عَلَى " ، ألا ترى أنك تقول : " عَمِيتُ عن كذَا " لا " عَلَى كَذَا " .
واختلف في الضَّمير في " عُمِّيَتْ " هل هو عائدٌ على " البَيِّنة " ، أو على " الرَّحْمَة " ، أو عليهما معاً ؟ .
وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد ، وإذا قيل بأنه عائدٌ على " البيِّنة " فيكون قوله { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقُّهُ ، { على بَيِّنَةٍ مِّن ربي فَعُمِّيَتْ } .
وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، والأصل : " على بينة من ربي وآتاني رحمة فعميت " .
قال الزمخشريُّ : وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة ، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة ، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة ، وبالرَّحمة النبوَّة .
فإن قلت : فقوله " فعُمِّيَتْ " ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني ، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيتَا ؟ قلت : الوجهُ أن يُقدَّرَ : فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة . انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على " أرأيْتُمْ " هذه في الأنعام ، وتلخيصهُ هنا أنَّ " أرأيتُم " يطلب " البيِّنة " منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب " عَلَى " فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا ، فحذف المفعولُ الأوَّل ، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني ، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه .
قوله : " أنُلْزمُكُمُوهَا " أتى هنا بالضَّميرين متصلين ، وتقدَّم ضميرُ الخطاب ؛ لأنَّهُ أخص ، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً . وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان " أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً " .
وقال الزمخشريُّ : يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله : " أنُلْزِمكم إيَّاهَا " ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز " فَسَيكفيك إيَّاهُمْ " ، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ .
وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ ، ويضعف سكونها ، وعليه " أرَاهُمْني البَاطِل " .
وقال أبُو البقاءِ{[18758]} : وقرئ بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع ؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال : " ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم ، وهو الأصلُ في ميم الجمع ، وقرئ بإسكان الميم " انتهى .
وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه ، وغيره يأباه .
ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل ، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج .
أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر ، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها ، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرئ القيس : [ السريع ]
فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ *** . . . {[18759]}
وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم ، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً ، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً ، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل ، وسيبويه ، وحُذَّاقِ البصريين ؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ .
قال شهابُ الدِّين : وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ : " أنُلُزِمْكُمُوهَا " بسكون هذه الميم ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [ 54 ] ، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً ؟ .
و " ألزم " يتعدَّى لاثنين ، أولهما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة .
و{ أَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعل ، أو لأحدِ المفعولين .
وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل ، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك .
والمعنى : " أنلزمكم البينة ، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا " . قال قتادةُ : " لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا ، ولكن لم يقدروا " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.