اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

قوله تعالى : { قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } .

وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى ، والمعنى : أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه ، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } وهي إمَّا النبوة ، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : صارت مظنة خفيت ، والتبست عليكم .

قوله : " مِّن ربي " نعتٌ ل " بَيِّنَة " ، أي : بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي .

قوله : " رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ " يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل " رَحْمَةً " وأن يكون متعلقاً ب " آتَانِي " .

قوله : " فَعُمِّيَتْ " قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم ، والباقون{[18754]} بالفتح ، والتخفيف . فأمَّا القراءة الأولى فأصلها : عماهَا اللهُ عليكم ، أي : أبْهمها عقوبة لكم ، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله ، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى ، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل " فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم " .

ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن{[18755]} وعليّ والسُّلمي " فَعَمَاهَا " من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي .

وروي عن الأعمش وابن وثاب{[18756]} " وعُمِّيَتْ " بالواو دون الفاء .

وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً .

قال الزمخشريُّ : فإذا قلتَ ما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة ، قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] جعلت عمياء ، قال تعالى : { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } الآية ؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ : فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ .

وقيل : هذا من باب القلبِ ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي ، وهو كثيرٌ ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه ، وأنشدوا على ذلك : [ الطويل ]

تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه *** . . . {[18757]}

قال أبُو علي : وهذا ممَّا يُقْلَبُ ، إذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } [ إبراهيم : 47 ] .

وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ .

وأمَّا الآيةُ ف " أخْلَفَ " يتعدَّى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ .

وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب " عَنْ " دُونَ " عَلَى " ، ألا ترى أنك تقول : " عَمِيتُ عن كذَا " لا " عَلَى كَذَا " .

واختلف في الضَّمير في " عُمِّيَتْ " هل هو عائدٌ على " البَيِّنة " ، أو على " الرَّحْمَة " ، أو عليهما معاً ؟ .

وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد ، وإذا قيل بأنه عائدٌ على " البيِّنة " فيكون قوله { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقُّهُ ، { على بَيِّنَةٍ مِّن ربي فَعُمِّيَتْ } .

وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، والأصل : " على بينة من ربي وآتاني رحمة فعميت " .

قال الزمخشريُّ : وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة ، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة ، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة ، وبالرَّحمة النبوَّة .

فإن قلت : فقوله " فعُمِّيَتْ " ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني ، وحقُّه أن يقال : فَعَمِيتَا ؟ قلت : الوجهُ أن يُقدَّرَ : فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة . انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على " أرأيْتُمْ " هذه في الأنعام ، وتلخيصهُ هنا أنَّ " أرأيتُم " يطلب " البيِّنة " منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب " عَلَى " فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا ، فحذف المفعولُ الأوَّل ، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني ، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه .

قوله : " أنُلْزمُكُمُوهَا " أتى هنا بالضَّميرين متصلين ، وتقدَّم ضميرُ الخطاب ؛ لأنَّهُ أخص ، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً . وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان " أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً " .

وقال الزمخشريُّ : يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله : " أنُلْزِمكم إيَّاهَا " ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز " فَسَيكفيك إيَّاهُمْ " ، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ .

وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ ، ويضعف سكونها ، وعليه " أرَاهُمْني البَاطِل " .

وقال أبُو البقاءِ{[18758]} : وقرئ بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع ؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال : " ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم ، وهو الأصلُ في ميم الجمع ، وقرئ بإسكان الميم " انتهى .

وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس : يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه ، وغيره يأباه .

ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل ، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج .

أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر ، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها ، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرئ القيس : [ السريع ]

فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ *** . . . {[18759]}

وكذا قال الزمخشري أيضاً .

وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم ، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً ، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً ، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل ، وسيبويه ، وحُذَّاقِ البصريين ؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ .

قال شهابُ الدِّين : وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ : " أنُلُزِمْكُمُوهَا " بسكون هذه الميم ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [ 54 ] ، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً ؟ .

و " ألزم " يتعدَّى لاثنين ، أولهما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة .

و{ أَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعل ، أو لأحدِ المفعولين .

وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل ، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك .

والمعنى : " أنلزمكم البينة ، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا " . قال قتادةُ : " لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا ، ولكن لم يقدروا " .


[18754]:ينظر: الحجة 4/321 وإعراب القراءت السبع 1/279 وحجة القراءات ص (339) والإتحاف 2/124 والبحر المحيط 5/217 والدر المصون 4/93.
[18755]:وقرأ بها الأعمش أيضا ينظر: البحر المحيط 5/217 والدر المصون 4/93.
[18756]:ينظر: المحرر الوجيز 3/165 والبحر المحيط 5/217 والدر المصون 4/93.
[18757]:صدر بيت وعجزه: وسائره باد إلى الشمس أجمع *** ... ينظر: الكتاب 1/181 وأمالي المرتضى 1/181 والهمع 2/123 والخزانة 4/235 وتأويل المشكل (194) والدرر 2/156 وروح المعاني 12/39 والبحر المحيط 5/216.
[18758]:وحكي عن أبي عمرو: إسكان الميم ينظر: الكشاف 2/390 والبحر المحيط 5/217 والدر المصون 4/94.
[18759]:تقدم.