قوله : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } .
" المَلأُ " هم الأشراف والرُّؤساء . " مَا نَراكَ " يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً ، وأن تكون بصريةً . فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك : " اتَّبَعَكَ " في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً ، وعلى الثَّاني في محل نصب على الحال ، و " قَدْ " مقدرةٌ عند من يشترط ذلك .
والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع ل " أرْذُلٍِ " ، و " أرْذُل " جمع ل " رَذْلٍ " نحو : كَلْب وأكْلُب وأكالب .
وقيل : بل جمع ل " أرْذَال " ، و " أرْذَال " جمع ل " رَذْل " أيضاً .
والقائلون بأنه ليس جمع جمع ، بل جمعٌ فقط قالوا : هو جمعٌ ل " أرْذل " ، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق .
وقال بعضهم : هو جمع " أرْذَل " الذي للتفضيل ، وجاء جمعاً كما جاء { أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] و " أحاسنكم أخلاقاً " .
ويقال : رجل رَذْل ورُذَال ، ك " رَخْل " و " رُخَال " وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ .
قال الواحديُّ : هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته . والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا : هو الأرْذَلُ ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة .
قوله : " بَادِيَ الرَّأي " قرأ أبو عمرو{[18752]} وعيسى الثَّقفيُّ " بَادِىءَ " بالهمز ، والباقون بياءٍ صريحة مكان الهمزة . فأما الهمزُ فمعناه : أول الرَّأي ، أي : أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل ، بل من أولِ وهلةٍ . وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز ؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم ، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر ، والمعنى : ظاهر الرَّأي دون باطنه ، أيك لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه ، وهو في المعنى كالأولِ .
وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه :
أحدها : " نَرَاكَ " ، أي : وما نَراكَ في أول رأينا ، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين .
والثاني - من الأوجه الثلاثة - : أن يكون منصوباً ب " اتَّبَعَكَ " ، أي : ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك .
والثاني : أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت ، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك .
الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه " أرَاذِلُنَا " والمعنى : أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك ، أي : إنَّ رذالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة .
والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب ، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ " إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ " .
ثم القائل بكون " بَادِيَ " ظرفاً يحتاج إلى اعتذار ، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ ، قال مكيّ : وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في " فَعِيل " نحو : قَرِيب ومليء ، و " فاعل وفعيل " متعاقبان ك : رَاحِم ورَحِيم ، وعَالِم وعَلِيم ، وحسُن ذلك في " فَاعِل " لإضافته إلى الرأي ، والرأي يضاف إليه المصدر ، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو : " أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ " أي : " في جَهْد " .
قال الزمخشريُّ{[18753]} : وانتصابه على الظَّرف ، أصله : وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم ، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم ، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه .
الوجه الثاني - من السَّبعة - : أن لا ينتصب على المفعول به ، حذف معه حرفُ الجر مثل : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] .
وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ .
الثالث من السَّبعة : أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس ، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم ، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديره : رُؤية بدءٍ : أو ظهور ، أو اتباع بدءٍ أو ظهور ، أو رذالة بدءٍ .
الرابع من السبعة : أن يكون نعتاً ل " بَشَر " ، أي : ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي ، أي : ظاهرهُ ، أو مبتدئاً فيه . وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة .
الخامس : أنَّهُ حالٌ من مفعول " اتَّبَعَكَ " ، أي : وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه ، ولا حصانة لك .
السادس : أنه منادى والمراد به نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - ، كأنَّهُم قالوا : يا بَادِي الرَّأي ، أي : ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به ، والاستقلال له .
السابع : أنَّ العامل فيه مضمر ، تقديره : أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي ، ذكره أبُو البقاءِ ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ . واعلم أنَّك إذا نصبت " بَادِيَ " على الظرف أو المصدر بما قبل " إلاَّ " احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال ، وهو أنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يكون معمولاً لما قبلها ، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو : مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ ، أو مستثنى نحو : قَامَ القومُ إلاَّ زيداً ، أو تابعاً للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و " بَادِي الرَّأي " ليس شيئاً من ذلك .
قال مكي : لو قلت في الكلام : ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً ؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد " إلاَّ " لم يَجُزْ ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب " إلاَّ " إلى مفعولين ، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ ، ألا ترى أنَّك لو قلت : مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز ، ولذلك لو قلت : استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو " مع " لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف ، فيجوز وصولُ الفعل .
والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها ، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ .
والرَّأيُ : يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل .
اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عليه الصلاة والسلام - شُبُهَاتٍ :
الأولى : أنَّهُم قالوا : إنَّه بشرٌ مثلهم ، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطَّاعة لجميع العاملين .
الثانية : كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ ، وأصحاب الصنائع الخسيسة ؛ فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] .
الثالثة : قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة ؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات .
واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ ، وتقدَّم الكلامُ على " الملأ " وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [ 66 ] .
واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته ؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه ؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل ؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر .
وأمَّا قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } فهذا أيضاً جهلٌ ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ ، ولا بالمناصب العاليةِ ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى ، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة .
وأمَّا قولهم : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } فهو أيضاً جهلٌ ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل ، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة .
ثم قال لنُوح وأتباعه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه ، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.