اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيۡهِ قَالُواْ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهۡلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئۡنَا بِبِضَٰعَةٖ مُّزۡجَىٰةٖ فَأَوۡفِ لَنَا ٱلۡكَيۡلَ وَتَصَدَّقۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَجۡزِي ٱلۡمُتَصَدِّقِينَ} (88)

قوله تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز } الآية اتفق المفسِّرون على أنَّ هنا محذوفاً ، وتقديره : فخرجوا راجعين إلى مصر ، ودخلوا على يوسف ، فقالوا : يا أيُّها العزيزُ .

فإن قيل : إذا كان يقعوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه ، فلم عادوا إلى الشكوى ؟ .

فالجواب : أنَّ المتحسِّسَ يصل إلى مطلوبه بجميع الطُّرقِ ، والاعترافِ باِلعجز ، وضموا رقَّة الحال ، وقلَّة المال ، وشدَّة الحاجة ، وذلك ممَّا يرقِّقٌ القلب ، فقالوا : نُجرِّبهُ في هذه الأمورِ ، فإن قلبه لنا ذكرنا له المقصود ، وإلا سكتنا ، فلهذا قدَّموا ذكر فقالوا : " أيُّها العزيزُ " والعزيزُ : الملكُ القادرُ الممتنع : " مسَّنَا وأهْلنَا الضُرُّ " وهو الفقر ، والحاجة ، وكثرة العيال وقلَّة الطَّعام ، وعنوا بأهلهم من خلفهم .

قوله : " مُزجَاةٍ " أي مدفوعة يدفعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها ، ومنه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً } [ النور : 43 ] أي : يسوقها بالريح ؛ وقال حاتم [ الطويل ]

3143 لِيًَبْكِ على مِلحَان ضَيْفٌ مُدفَعٌ *** وأرْمَلةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلاَ

ويقال : أزْجيتُ رَدِيء الدرهم فزُجِي ، ومنه استعير زَجَا الجِرَاح تزْجُوا زجاً وجراح زَاج . وقول الشاعر : [ البسيط ]

3144 وحَاجَةٍ غَيْرِ مُزْجاةٍ مِن الحَاجِ ***

أي : غير يسيرة يمكنُ دفعها ، وصرفها لقلَّة الاعتداد بها ، فألف " مُزجَاةٍ " منقلبة عن واو .

فصل

وإنَّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمَّا لنقصها ، أو لدناءتها أو لهما جميعاً ، قال بعضهم : المُزْجَاةُ القليلة . وقيلك كانت رَدِيئةً .

وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطَّعام وقيل : أمتعة رديئة . وقيل : متاع الأعراب الصُّوفُ والسَّمْن . وقيل : الحبة الخضراء ، وقيل : الأقط ، وقيل : النعال والأدم ، وقيل : سويق المقل .

وقيل : إنَّ الدَّراهم كانت منقوشة عليها صورة يوسف ، والدَّراهم الَّتي جاؤا بها ، ما كان فيها صورة يوسف .

وإنَّما سيمت البضاعة القليلة الرَّديئة مزجاة ، قال الزجاج : من قولهم : فلانٌ يزْجِي العَيْشَ ، أي : يدفع الزَّمان بالقليلِ ، أي : إنَّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزَّمان ، وليست مما ينتفعُ بها ، وعلى هذا فالتقديرُ ببضاعة مزجاةٍ ندافع بها الأيام .

قال أبو عبيد : إنَّما قيل للدَّراهم الرّّديئةِ مزجاة ؛ لأنَّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممَّن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند العرب : الدَّفعُ .

وقيل : مزجاة ، أي : مؤخرة مدفوعة عن الإنفاقِ لا يقبل مثلها إلاَّ من اضطر ، واحتاج إليها لفقد غيرها ممَّا هو أجود مها .

وقال الكلبيُّ : " مزجاة لغة العجم ، وقيل : هي من لفظ القِبْطِ " .

قال ابن الأنباريي : لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوباً إلى القبط .

وقرأ حمزة والكسائي : " مُزْجَاةٍ " بالإمالة ؛ لأن اصله الياء ، والباقون بالفتح والتفخيم .

ثمَّ لما وصفوا شدَّة حالهم ، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له : " فأوْفِ لنَا الكيْلَ : يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة ، وأن يراد به الكيل ، فيكون مصدراً ، والمعنى إنَّا نريدٌ أن نقيم النَّاقص مقام الزَّائد أو نقيم الرَّديء مقام الجيِّد .

{ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } : أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد ، والرَّديء ، وسامحنا ولا تنقصنا .

وقال ابن جريج ، والضحاك ، أي : تصدَّق علينا بردِّّ أخينا لنا : { إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } يثيب المتصدقين .

قال الضحاك : لم يقولوا : إنَّ الله يجزيك ؛ لأنَّهم لم يعلموا أنَّه مؤمنٌ .

وسُئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه ؟ .

قال سفيان : ألم تسمع قوله : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } .

يريد : أنَّ الصَّدقة كانت حلالاً لهم ، وأنكر الباقون ذلك ، وقالوا : حالُ الأنبياء وحالُ أولادِ الأنبياء في طلب الصَّدقة سواء ؛ لأنَّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله ، والاستغناء به عمَّنْ سواه .

وروي عن الحسنِ ومجاهدٍ : أنَّهما كرها أن يقول الرَّجل في دعائه : اللَّهُمَّ تصدَّق علينا ، قالوا : لأنَّ الله لا يتصدَّق ، وإنَّما التَّصدُّق بمعنى الثَّواب ، وإنما يقول اللَّهُمَّ أعطني وتفضَّل علينا .

فصل

قال القرطبيُّ : " استدلًَّ العلماء بهذه الآية على أنَّ أجرة الكيال على البائع ، لقولهم ليسوف عليه الصلاة والسلام " فأوْفِ لَنَا الكَيْلَ " فكان يوسفُ هو الذي يكيل ، وكذلك الوزَّانُ ، العدَّادُ وغيرهم ؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا باع عدّة من طعامه معلومة ، وأوجب العقد عليه ؛ وجب عليه أن يبرزها ، ويُمَيِّز حقَّ المشتري من حقِّه إلا إن كان المبيعُ فيه معيناً صبره ، أو ما ليس فيه حق موفيه ، فيخلي ما بينه وبينه ، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع ، وليس كذلك ما يتعلَّق به حقُّ موفيه من كيل أو وزنٍ ، ألا ترى : أنَّه لا يستحقُّ البائع الثمن إلاَّ بعد التَّوفية ، كذلك أجرة النقد على البائع أيضاً ؛ لأنَّ المتباع الدَّافع لدراهمه يقول : إنَّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرَّداءة ، فانظر لنفسك ، فيقع له فكان الأجرُ عليه ، وكذلك لا يجبُ أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع نفسه ، ولا أن يمكن من ذلك طائعاً ؛ ألا ترى أنَّ فرضاَ عليه أن يفدي يده ، ويصالح عليه ، إذا طلب المقتص ذلك .

وقال الشَّافعيُّ : إن الأجرة على المقتص منه كالبائع ؛ لأنَّه يجب عليه تسليم يده .