قوله تعالى : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأيها العزيز } الآية اتفق المفسِّرون على أنَّ هنا محذوفاً ، وتقديره : فخرجوا راجعين إلى مصر ، ودخلوا على يوسف ، فقالوا : يا أيُّها العزيزُ .
فإن قيل : إذا كان يقعوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه ، فلم عادوا إلى الشكوى ؟ .
فالجواب : أنَّ المتحسِّسَ يصل إلى مطلوبه بجميع الطُّرقِ ، والاعترافِ باِلعجز ، وضموا رقَّة الحال ، وقلَّة المال ، وشدَّة الحاجة ، وذلك ممَّا يرقِّقٌ القلب ، فقالوا : نُجرِّبهُ في هذه الأمورِ ، فإن قلبه لنا ذكرنا له المقصود ، وإلا سكتنا ، فلهذا قدَّموا ذكر فقالوا : " أيُّها العزيزُ " والعزيزُ : الملكُ القادرُ الممتنع : " مسَّنَا وأهْلنَا الضُرُّ " وهو الفقر ، والحاجة ، وكثرة العيال وقلَّة الطَّعام ، وعنوا بأهلهم من خلفهم .
قوله : " مُزجَاةٍ " أي مدفوعة يدفعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها ، ومنه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً } [ النور : 43 ] أي : يسوقها بالريح ؛ وقال حاتم [ الطويل ]
3143 لِيًَبْكِ على مِلحَان ضَيْفٌ مُدفَعٌ *** وأرْمَلةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلاَ
ويقال : أزْجيتُ رَدِيء الدرهم فزُجِي ، ومنه استعير زَجَا الجِرَاح تزْجُوا زجاً وجراح زَاج . وقول الشاعر : [ البسيط ]
3144 وحَاجَةٍ غَيْرِ مُزْجاةٍ مِن الحَاجِ ***
أي : غير يسيرة يمكنُ دفعها ، وصرفها لقلَّة الاعتداد بها ، فألف " مُزجَاةٍ " منقلبة عن واو .
وإنَّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمَّا لنقصها ، أو لدناءتها أو لهما جميعاً ، قال بعضهم : المُزْجَاةُ القليلة . وقيلك كانت رَدِيئةً .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطَّعام وقيل : أمتعة رديئة . وقيل : متاع الأعراب الصُّوفُ والسَّمْن . وقيل : الحبة الخضراء ، وقيل : الأقط ، وقيل : النعال والأدم ، وقيل : سويق المقل .
وقيل : إنَّ الدَّراهم كانت منقوشة عليها صورة يوسف ، والدَّراهم الَّتي جاؤا بها ، ما كان فيها صورة يوسف .
وإنَّما سيمت البضاعة القليلة الرَّديئة مزجاة ، قال الزجاج : من قولهم : فلانٌ يزْجِي العَيْشَ ، أي : يدفع الزَّمان بالقليلِ ، أي : إنَّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزَّمان ، وليست مما ينتفعُ بها ، وعلى هذا فالتقديرُ ببضاعة مزجاةٍ ندافع بها الأيام .
قال أبو عبيد : إنَّما قيل للدَّراهم الرّّديئةِ مزجاة ؛ لأنَّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممَّن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند العرب : الدَّفعُ .
وقيل : مزجاة ، أي : مؤخرة مدفوعة عن الإنفاقِ لا يقبل مثلها إلاَّ من اضطر ، واحتاج إليها لفقد غيرها ممَّا هو أجود مها .
وقال الكلبيُّ : " مزجاة لغة العجم ، وقيل : هي من لفظ القِبْطِ " .
قال ابن الأنباريي : لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوباً إلى القبط .
وقرأ حمزة والكسائي : " مُزْجَاةٍ " بالإمالة ؛ لأن اصله الياء ، والباقون بالفتح والتفخيم .
ثمَّ لما وصفوا شدَّة حالهم ، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له : " فأوْفِ لنَا الكيْلَ : يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة ، وأن يراد به الكيل ، فيكون مصدراً ، والمعنى إنَّا نريدٌ أن نقيم النَّاقص مقام الزَّائد أو نقيم الرَّديء مقام الجيِّد .
{ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } : أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد ، والرَّديء ، وسامحنا ولا تنقصنا .
وقال ابن جريج ، والضحاك ، أي : تصدَّق علينا بردِّّ أخينا لنا : { إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } يثيب المتصدقين .
قال الضحاك : لم يقولوا : إنَّ الله يجزيك ؛ لأنَّهم لم يعلموا أنَّه مؤمنٌ .
وسُئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه ؟ .
قال سفيان : ألم تسمع قوله : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين } .
يريد : أنَّ الصَّدقة كانت حلالاً لهم ، وأنكر الباقون ذلك ، وقالوا : حالُ الأنبياء وحالُ أولادِ الأنبياء في طلب الصَّدقة سواء ؛ لأنَّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله ، والاستغناء به عمَّنْ سواه .
وروي عن الحسنِ ومجاهدٍ : أنَّهما كرها أن يقول الرَّجل في دعائه : اللَّهُمَّ تصدَّق علينا ، قالوا : لأنَّ الله لا يتصدَّق ، وإنَّما التَّصدُّق بمعنى الثَّواب ، وإنما يقول اللَّهُمَّ أعطني وتفضَّل علينا .
قال القرطبيُّ : " استدلًَّ العلماء بهذه الآية على أنَّ أجرة الكيال على البائع ، لقولهم ليسوف عليه الصلاة والسلام " فأوْفِ لَنَا الكَيْلَ " فكان يوسفُ هو الذي يكيل ، وكذلك الوزَّانُ ، العدَّادُ وغيرهم ؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا باع عدّة من طعامه معلومة ، وأوجب العقد عليه ؛ وجب عليه أن يبرزها ، ويُمَيِّز حقَّ المشتري من حقِّه إلا إن كان المبيعُ فيه معيناً صبره ، أو ما ليس فيه حق موفيه ، فيخلي ما بينه وبينه ، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع ، وليس كذلك ما يتعلَّق به حقُّ موفيه من كيل أو وزنٍ ، ألا ترى : أنَّه لا يستحقُّ البائع الثمن إلاَّ بعد التَّوفية ، كذلك أجرة النقد على البائع أيضاً ؛ لأنَّ المتباع الدَّافع لدراهمه يقول : إنَّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرَّداءة ، فانظر لنفسك ، فيقع له فكان الأجرُ عليه ، وكذلك لا يجبُ أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع نفسه ، ولا أن يمكن من ذلك طائعاً ؛ ألا ترى أنَّ فرضاَ عليه أن يفدي يده ، ويصالح عليه ، إذا طلب المقتص ذلك .
وقال الشَّافعيُّ : إن الأجرة على المقتص منه كالبائع ؛ لأنَّه يجب عليه تسليم يده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.