اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (92)

قوله : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } عليكم يجوز أن يكون خبر " لاَ " و " اليَوْمَ " يحتمل أن يتعلق بما تعلَّق به هذا الخبر أي : لا تثريب مستقرٌ عليكم ويجوز أن يكون " اليَوْمَ " خبر " لاَ " ، و " عَليْكُمْ " متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون : " عليكم " صفة لاسم : " لا " ، و " اليَوْمَ " خبرها أيضاً ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف ، والجار ب : " تَثْرِيب " ؛ لأنه يصيرُ مطولاً شبيهاً بالمضاف ومتى كان كذكل أعرب ونُوِّن ، نحو : " لا خَيْراً من زَيْدٍ عندكَ " ويزيدُ عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول ، ومعموله بأجنبي وهو : " عَليْكُمْ " لأنه إما خبر وإما صفة .

وقد جوَّز الزمخشريُّ : أن يكون الظَّرف متعلقاً ب : تَثْرِيبَ " فقال : فإن قلنا : بم يتعلق " اليوم " ؟ قلت : بالتثريب ، أو بالمقدر في " عَليْكُم " من معنى الاستقرار أو ب : يَغْفِرُ " ، فجعله أنه متعلق ب " تَثْرِيب " وفيه ما تقدَّم .

وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به ، فنزع ما فيه من تنوين أو نون ؛ وجعل الفارسيُّ من ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

3150 أرَانِي ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً *** لِنفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ

قال : فإية منصوب ب : " كُفْرانَ " أي : أكفر الله أية لنفسي ، ولا يجوز أن تنصب " أيَّةً " ب : " أوَيْتُ " مضمراً ، لئلا يلزم الفصل بين مفعولي : " أرَى " بجملتين أي : ب " لاَ " ، وما في خبرها ، وب " أوَيْتُ " المقدرة ، ومعنى " أوَيْتُ " رققت وجعل منه بانُ مالكٍ ما جاء في الحديث : " لا صُمْتَ يومٌ إلى اللَّيلِ " برفع " يَوْمٌ " على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ ، وفعل مبني للمعفول وفي بعض ما تقدَّم خلافٌ ، وأمَّا تعليقه بالاستقرار المقدَّر فواضح ، ولذلك وقف أكثرُ القراء عليه ، وابتدأ ب : " يَغفِرُ اللهُ لكُمْ " وأما تعليقه ب : " يَغْفِرُ " فواضحٌ أيضاً ولذلك وقف بعض القراء على : " عَليْكُمْ " ، وابتدأ : " اليَوْم يغفرُ اللهُ لكُمْ " وجوَّزوا أن يكون خبر : " لا " محذوفاً ، و " عَلَيْكُمْ " ، و " اليَوْمَ " كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلُّ عليه : " تَثْريبَ " ، والتقدير : لا تثريبَ يتثرب علكيم اليوم كما قدروا في : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 43 ] لا عاصم يعصمُ اليوم .

قال أبو حيَّان : " لو قيل به لكان قويًّا " ، وقد يفرَّق بينهما : بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز ، وذلك أنَّك تحذف الخبر ، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر ، وتنيب الفعل إليه ، لأنَّ التثريب لا يثرب إلا مجازاً ، كقولهم : " شِعرٌ شاعرٌ " بخلاف : " لا عَاصِمَ يَعْصِم " فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة ، فهناك حذف شيءٍ واحد من غير مجاز ، وهنا حذف شيئين مع مجاز .

والتَّثْرِيبُ : العَتبُ ، والتَّأنيب ، وعبَّر بعضهم عنه بالتَّعيير من عيَّرته بكذا إذا عتَبْته وفي الحديث : " إذَا زَنَتْ أمَةٌ أحدكُم ، فليَجْلدْهَا ، ولا يُثرِّبْ " أي : لا يعيِّر ، وأصله من الثَّرب ، وهو ما تغشى الكرش من الشَّحم ، ومعناه : إزالةٌ الثَّرب ، كما أنَّ التَّجليد إزالةٌ الجلدِ ، فإذا قلت : ثرَّبتُ فلاناً ، فكأنَّنك لشدَّة عتبك له أزلت ثربه ، فضرب مثلاً في تزيق الأعراض .

وقال الرَّاغب : " ولا يُعْرَفُ من لفظه إلاَّ قولهم : الثَّرْبُ ، وهو شحمةٌ رقيقةٌ وقوله تعالى : { ياأهل يَثْرِبَ } [ الأحزاب : 13 ] يصحُّ أن يكون أصله من ذها الباب ، والياء فيه مزيدية " .

فصل

قال المفسريون : التَّثْريبُ : التَّوبيخُ ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ : طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشيُّوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه الصلاة والسلام " لا تَثْريب عَليْكُمْ " ، وقول يعقوب عليه الصلاة والسلام { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } [ يوسف : 98 ] .

واعلم أنَّا إذا جعلنا : " اليَوْمَ " متعلِّقاً ب : " لا تَثْريبَ " أي : لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب ، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام ، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً ؛ لأنَّ قوله : " لا تَثْرِيبَ " نفي للماهيَّة ، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية ، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال .

ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ ، فدعا لهم بقوله : { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } .

وإن قلنا : " اليَوْمَ " متعلق بقوله : { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم ، وذلك أنَّهم لما خجلوان واعترفوا وتابوا ، فالله تعالى قَبِلَ توتبهم ، وغفر ذنوبهم ؛ فلذلك قال : { اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } .

" روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش : ما تَرونَ ؟

قالوا : خيراً أخٌ كريمٌ ، وابنُ أخٍ كريمٍ ، وقد قدرتَ ، قال : أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف : " لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ " " .

وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم ، قال لهُ العبَّاس رضي الله عنه : " إذا أتيت رسُول الله صلى الله عليه وسلم فاتْلُ عليه : { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } ففعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله لَكَ ولمن علَّمك " .

وروي : أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه : إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك ، فقال يوسف : إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم ، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الأولى ، ويقولون : سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم ، وعظُمتُ في العيون لما جئتم ، علم النَّاس أنكم إخوتي ، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل أبي من بعدي قالوا : ذهبت عيناه ؛ فأعطاهم قميصه وقال : { اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً }