اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (14)

قوله تعالى : { وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا } الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ ، وثانياً ببدن الإنسان ، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات ، ورابعاً بعجائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ .

قال علماء الهيئةِ : ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ ، وذلك هو البحر المحيط ، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ ؛ قال تعالى : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر } [ لقمان : 27 ] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار ، ومعنى تسخيرها للخلق : جعلها بحيث يتمكن [ الناس ]{[19738]} من الانتفاع بها : إمَّا بالركوبِ ، أو بالغوصِ .

واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ :

الأول : قوله تعالى { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا } يجوز في " منهُ " تعلقه ب " لِتَأكُلوا " وأن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حال من النكرة بعده ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية أو للتبعيض ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ ، أي : من حيوان ، و " طَريًّا " فعيلٌ من : طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً ؛ ك " سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة " .

وقال الفراء : [ بل يقال : ]{[19739]} " طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً ؛ كما يقال : شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً " .

والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي : غضًّا جديداً ، ويقال : طَريْتُ كذا ، أي : جدَّدْتهُ ، ومنه الثياب المُطرَّاة ، والإطْراءُ : مدحٌ تجدَّد ذكرهُ ؛ وأمَّا " طَرَأ " بالهمز ، فمعناه : طَلَعَ .

قال ابن الأعرابي - رحمه الله- : لحمٌ طَريٌّ غير مهموز ، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً .

فصل

اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة ، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب ؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ .

فصل

لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك ، قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يحنثُ ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم . وقال آخرون : يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً ، وليس فوق بيان الله بيانٌ .

روي أنَّ أبا حنيفة - رضي الله عنه - لما قال بهذا ، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية ؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ ، هل يحنث أم لا ؟ .

فقال سفيان - رحمه الله - : لا يحنثُ ، فقال السائل : أليس أنَّ الله - تعالى - قال : { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا } [ نوح : 19 ] قال : فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رضي الله عنه - قاله ابن الخطيب .

وهذا ليس بقويِّ ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام ، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل ، والفرق بين الصورتين من وجهين :

الأول : أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط ، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ ؛ لزمنا أن نمنعه من الصلاة ؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث ، وإن صلَّى على البساط حنث ، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم ؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ .

الثاني : أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة ، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رضي الله عنه- : أنَّ الأيمان مبناها على العرف ؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ ، لا يفهم منه لحم السَّمك ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : " اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً " فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار .

والجواب : أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ ، وتارة تعتبرون المعنى ، وتارة تعتبرون العرف ، وليس لكم ضابط ؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه : اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار ، مع أنَّكم تقولون : إنه يحنث بأكل لحم العصفور ؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين .

النوع الثاني من منافع البحر : قوله : { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } " الحليةُ : اسم لما يتحلَّى به ، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة ؛ كالعِمَّة والخِمرة " .

" تَلْبَسُونهَا " صفة ، و " مِنْهُ " يجوز فيه ما جاز في " مِنْهُ " قبل ، والمراد بالحلية : اللؤلؤ والمرجان .

فصل

المراد : يلبسهم لبس نسائهم ؛ لأنَّهن من جملتهم ، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم ، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عليه الصلاة والسلام- :

" لا زَكَاةَ في الحُلِيّ{[19740]} " .

ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث : بأنَّ لفظ " الحُلِيّ " مفرد محلى بالألف واللام ؛ فيحمل على المعهود السابق ، وهو المذكور في هذه الآية ، فيصير تقدير الحديث : لا زكاة في اللآلئ ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث .

النوع الثالث من منافع البحر : قوله تعالى : { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال أهل اللغة : مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها . وعن الفراء : أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ .

إذا عرفت هذا ، فقول ابن عبَّاسٍ : " مَواخِرَ " أي : جَوارِي ، إنما حسن التفسير به ؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية . وقوله تعالى : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوه للتجارة ؛ فتطلبوا الريح من فضل الله ، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه ؛ فلعلكم تقدمون على شكره .

قال القرطبي : " امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير .

قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب : " هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا {[19741]} " .

وروى البخاريُّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله{[19742]} " .

فصل

من حلف لا يلبس حلياً ، فلبس لؤلؤاً لم يحنث ، وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - .

وقال بعض المالكية : " هذا ، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين ، والأيمان مبنية على العرف ، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج ، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث ، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً " .

قوله : { وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } ، " تَرَى " جملة معترضة بين التعليلين : وهما " لِتأكُلوا " ، " ولِتَبْتغُوا " ، وإنما كانت اعتراضاً ، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ .

و " فِيهِ " يجوز أن يتعلَّق ب " تَرَى " وأن يتعلق ب " مَوَاخِرَ " لأنها بمعنى شواقٍّ ، وأن يتعلق بمحذوفٍ ؛ لأنه حال من " مَواخِرَ " أو من الضمير المستكنِّ فيه .

و " مَواخِرَ " جمع مَاخِرَة ، والمَخْرُ : الشقُّ ، يقال : مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ ، أي : شقَّتهُ ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً ، ويقال للسُّفنِ : بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ ، بالميم والباء بدل منها .

وقال الفراء{[19743]} : هُوَ صوتُ جري الفلك ، وقيل : صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح ، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ ينشأ ]{[19744]} صيفاً ، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا : إذا استقبلتها بأنفك .

وفي الحديث : " اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ{[19745]} " يعني في الاستنجاءِ ، اي : ينظر أين مجراها وهبوبها ؛ فليستدبرها ؛ حتَّى لا يرد عليه البول .

والمَاخُورُ : الموضع الذي يباع فيه الخمر ، و " تَرَى " هنا بصرية فقط .

قوله { وَلِتَبْتَغُواْ } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : عطفٌ على " لِتَأكُلوا " وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم ، وهذا هو الظاهر .

وثانيها : أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ ، تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، ذكره ابن الأنباري .

وثالثها : أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فعل ذلك لتبتغوا . وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه .

ومعنى { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني : لتركبوها للتجارة ؛ فتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله ، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه .


[19738]:في أ: الإنسان.
[19739]:زيادة من أ.
[19740]:ذكره الرازي في "تفسيره" (20/7) وضعفه.
[19741]:أخرجه أحمد (1/96) والنسائي (8/160 ـ 161) وابن ماجه (3595) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/250) وابن أبي شيبة (8/351) وأبو يعلى (1/235) رقم (272) وابن حبان (1465 موارد) من حديث علي بن أبي طالب.. وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري: أخرجه ابن أبي شيبة (8/346) والترمذي (1720) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/251) والبيهقي (2/425) وابن حبان في "صحيحه" (7/396) من طريق سعيد بن أبي هند عنه. وقال الترمذي: "وفي الباب عن عمر وعلي ـ وهو الحديث السابق ـ وعقبة بن عامر وأنس وحذيفة وأم هانيء وعبد الله بن عمرو وعمران بن حصين وعبد الله بن الزبير وجابر وأبي ريحان وابن عمر وواثلة بن الأسقع". وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن حبان: خبر سعيد بن أبي هند عن أبي موسى في هذا الباب معلول لا يصح، قلت: لعله يشير إلى الانقطاع بينهما. قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" ص (75): سمعت أبي يقول: لم يلق سعيد بن أبي هند أبا موسى الأشعري ونقله العلاني في "جامع التحصيل" ص (185).
[19742]:أخرجه البخاري رقم (5873) ومسلم في كتاب اللباس والزينة: باب لبس النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق نقشه محمد رسول الله (54/2091) وأحمد (2/22) وأبو داود (4218) والنسائي (5293) والترمذي في "الشمائل" رقم (90) والبيهقي (4/142) من حديث ابن عمر.
[19743]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/98.
[19744]:في ب: تنساب.
[19745]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/64) بلفظ: إذا أراد أحدكم البول فليستمخر الريح.