اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (8)

قوله : { والخيل والبغال والحمير } العامة على نصبها ؛ نسقاً على الأنعام ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها{[19714]} على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها ، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا .

قال القرطبي{[19715]} : " وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل ، كضَائن واحد ضأن . وقيل : لا واحد له ، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل ، والبغال ، والحمير ، بالذكر ؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام . وقيل : دخلتْ ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب ، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير " .

قوله : " وَزِينَةً " في نصبها أوجهٌ :

أحدها : أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول ، وعدم اتحاد الفاعل ، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون .

الثاني : أنَّها منصوبة على الحال ، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول " خَلَقَهَا " وإمَّا مفعول " لِترْكَبُوهَا " فهو مصدر ، وأقيم مقام الحالِ .

الثالث : أن ينتصب بإضمار فعلٍ ، فقدره الزمخشريُّ - رحمه الله - وخلقها زينة .

وقدره ابن عطيَّة وغيره : وجعلها زينةً .

الرابع : أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي : " ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً " .

وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر : " لتَرْكَبُوهَا زِينَةً " بغير واوٍ ، وفيها الأوجه المتقدمة ؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل " لِترْكبُوهَا " متزينين .

فصل

لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية ، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } ، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل .

واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ ؛ وهو قول ابن عباسٍ ، والحكم ، ومالك ، وأبي حنيفة - رضي الله عنهم - بهذه الآيةِ ، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً ؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر ، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله .

ويقوِّي هذا الاستدلال : أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ .

ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير ، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب ، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام .

وأيضاً قوله تعالى : { لِتَرْكَبُوهَا } يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة ، هو الركوبُ والزينةُ ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب ، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً ؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ ؛ بل يصير بعض المقصودِ .

وأجاب الواحديُّ - رحمه الله- : بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل ؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة ؛ لأنَّ هذه السورة مكية .

ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً ؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاًُ قبل هذا اليوم ، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [ السنة ]{[19716]} فائدة .

وأجاب غيره : بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم ؛ بل المراد منه أن يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه ، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته .

واحتجُّوا بقولِ جابر - رضي الله عنه- : " نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ " {[19717]} .

ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها ، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال .

فقال سبحانه وتعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء ؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال .

وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحار السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عليه الصلاة والسلام - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك ، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " {[19718]} .


[19714]:ينظر: البحر 5/462، والقرطبي 10/49، والدر المصون 4/364.
[19715]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 10/49.
[19716]:في ب: الشبهة.
[19717]:أخرجه البخاري (9/565) كتاب الذبائح والصيد: باب لحوم الخيل (5520) ومسلم (15413) كتاب الصيد والذبائح: باب في أكل لحوم الخيل حديث (36/1941) وأبو داود (3788) والدارمي (2/87) والبيهقي (9/ 326 ـ 327) وأحمد (3/361) والطحاوي (2/318) والبغوي في "شرح السنة" (6/47) من طرق عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر به.
[19718]:ذكره الرازي في "تفسيره" (19/184).