اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَعَلَى ٱللَّهِ قَصۡدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنۡهَا جَآئِرٞۚ وَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ} (9)

قوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } الآية والمعنى : إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها ؛ إزاحةً للعذرِ ؛ وإزالة للعلَّة { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] .

قوله : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } الضمير يعود على السبيل ؛ لأنَّها تؤنث { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ ، فأنَّث على معنى الجمع ، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد ، يقال : سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ ، أي : مستقيمٌ ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه .

وقيل : الضمير يعود على الخلائق ؛ ويؤيده قراءة{[19719]} عيسى ، وما في مصحف عبد الله : " ومِنْكُمْ جَائِرٌ " ، وقراءة{[19720]} عليّ : " فَمِنكُْ جَائِرٌ " بالفاء .

وقيل : " ألْ " في " السَّبيلِ " للعهد ؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية ؛ لأنَّه قيل : ومن السبيل فأعاد عليها ، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها ، وأما إذا كانت " ألْ " للجنس فيعود على لفظها .

والجَوْرُ : العدول عن الاستقامة ؛ قال النابغة : [ الطويل ]

3301- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي{[19721]}

وقال آخر : [ الكامل ]

3302- ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى *** قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ{[19722]}

وقال أبو البقاء{[19723]} : و " قَصْدُ " مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل ، أو تعديل السبيل ، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ .

فصل

قوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة ، وقيل : بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين ، والقصد : الصراط المستقيم .

{ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } يعني : ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ ، والقصد من السبيل دينً الإسلامِ ، والجائر منها : اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ .

قال جابر بن عبد الله : " قَصْدُ السَّبيلِ " بيانُ الشَّرائع والفرائض .

وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله : " قَصْدُ السَّبيلِ " السنة ، " ومِنْهَا جَائِرٌ " الأهواء والبدع ؛ لقوله تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } [ الأنعام : 153 ] .

فصل

قالت المعتزلة : دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [ والأعذار ]{[19724]} ؛ لقوله { وعلى الله قَصْدُ السبيل } وكلمة " عَلَى " للوجوب ، قال تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه ، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال ؛ لقال { وعلى الله قَصْدُ السبيل } وعليه جائرها ، أو قال : وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك ، بل قال في قصد السبيل أنه عليه ، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه ، بل قال : " ومِنْهَا جَائِرٌ " دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً .

وأجيب : بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ ؛ أن يبين الدِّين الحق ، والمذهب الصحيح ، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال ؛ فذلك غير واجب .

قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان ؛ لأنَّ كلمة " لَوْ " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، أي : ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين ، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم .

وأجاب الأصمُّ : بأنَّ المراد : لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم ، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل .

وأجاب الجبائيُّ : بأنَّ المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب ؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان ؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين .

وأجاب بعضهم ؛ فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل ، إلاَّ أنَّه - تعالى - [ عرَّفكمُ ]{[19725]} للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن ، فمن تمسَّك بها فاز ، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب . وتقدم الجواب عن ذلك مراراً .


[19719]:ينظر: البحر 5/463، والدر 4/315.
[19720]:ينظر: السابق.
[19721]:عجز بيت لطرفة بن العبد وليس كما قال المصنف رحمه الله وصدره: عدولية أو من سفين ابن يامن ينظر: ديوانه (20) البحر المحيط 5/463 وشرح القصائد السبع 137 وسرح المعلقات العشر 92، وتفسير القرطبي 10/54 والخصائص 2/121، والمنصف 2/121، ورصف المباني ص 447.
[19722]:البيت لامرىء القيس، ينظر: الديوان/152، فتح القدير 3/149، البحر المحيط 5/463 ، القرطبي 10/54، الدر المصون 4/315.
[19723]:ينظر: الإملاء 2/78.
[19724]:في ب: والأغلال.
[19725]:في أ: عرضكم.