اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗۖ لَّكُم مِّنۡهُ شَرَابٞ وَمِنۡهُ شَجَرٞ فِيهِ تُسِيمُونَ} (10)

قوله تعالى : { هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً } لمَّا استدلَّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان ، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات .

واعلم أنَّ الماء المنزَّل من السماء هو المطر وهو قسمان :

أحدهما : الذي جعله الله شراباً لنا ، ولكل حيٍّ .

فإن قيل : دلت الآية على أنَّ شراب الخلق ليس إلاَّ من المطرِ ، ومن المعلوم أنَّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض ؛ وأجاب القاضي - رحمه الله- : بأنه تعالى بين أنَّ المطر شرابنا ، ولم ينفِ أن نشرب من غيره .

وأجاب غيره : بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء ؛ لقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ المؤمنون : 18 ] ولا يمتنع أيضاً في العِذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر .

والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات ، وهو قوله { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } .

قوله : " لَكُمْ " يجوز أن يتعلق ب " أنْزَلَ " ويجوز أن يكون صفة ل " مَاءً " فيتعلق بمحذوفٍ ، فعلى الأول يكون [ " شراب " مبتدأ ، و " منه " خبره مقدم عليه ، والجملة أيضاً صفة ل " ماء " ، وعلى الثاني يكون " شراب " فاعلاً ] بالظرف ، و " مِنْهُ " حال من " شَرابٌ " ، و " مِنَ " الأولى للتبعيض ، وكذا الثانية عند بعضهم ، لكنَّه مجازٌ ؛ لأنَّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء ؛ كقوله : [ الرجز ]

أسْنِمَةُ الآبَالِ في رَبَابَهْ{[19726]} *** أي : في سحابة ، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها .

وقال ابنُ الأنباري - رحمه الله- : " هو على حذف مضافٍ إمَّا من الأول ؛ يعني قبل الضمير ، أي : ومن جهته أو سقيه شجر ، وإمَّا من الثاني ، يعني قبل شجر ، أي : شربُ شجرٍ أو حياة شجر " .

وجعل أبو البقاءِ : الأولى للتبعيض ، والثانية للسببية ؛ أي : وبسببه إنباتُ شجرٍ ، ودل عليه قوله - سبحانه وتعالى - { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع } .

والشجر ها هنا : كلُّ نباتٍ من الأرض حتَّى الكلأ ، وفي الحديث : " لا تَأكلُوا ثمنَ الشَّجرِ فإنَّهُ سُحْتٌ " يعني : الكلأ ينهى عن تحجر المباحاتِ المحتاج إليها ، وأنشدوا شعراً : [ الرجز ]

نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إذَا عَزَّ الشَّجَرْ{[19727]} *** يريد : يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، قاله الزجاج .

وقال ابن قتيبة في هذه الآية : المراد من الشجر : الكلأ .

فإن قيل : قال المفسرون في قوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] : إن المراد بالنجم : ما ينجم من الأرض ممَّا ليس له ساق ، ومن الشجر ما له ساق ، وأيضاً : عطف الشجر على النَّجم ؛ فيوجب مغايرة الشجر للنجم .

فالجواب : أنَّ عطف الجنس على النوع وبالضدِّ مشهور وأيضاً : فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط ، يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض ، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت ، وقال تعالى : { حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب ، والكلأ ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه .

وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ .

قوله : { فِيهِ تُسِيمُونَ } هذه صفة أخرى ل " مَاءً " ، والعامة على " تُسِيمُونَ " بضم التاء من أسام ، أي : [ أرسلها ]{[19728]} لترعى .

وقرأ زيد{[19729]} بن علي بفتحها ، فيحتمل أن يكون متعدياً ، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى ، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ ، أي : تُسِيمُ مَواشِيكُمْ .

يقال : أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى ، وسامت هي تسُومُ سَوْماً ، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة .

قال الزجاج - رحمه الله- : " أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة ؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ " .

وقال غيره : لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى ، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى : { والخيل المسومة } [ الآية : 14 ] .


[19726]:تقدم برقم: 2446.
[19727]:ينظر: معاني الزجاج 3/192، الخازن 4/82، الرازي 19/238، اللسان والتاج (لحم)، البحر المحيط 5/464 حاشية الشهاب 5/315، روح المعاني 14/105، الدر المصون 4/316.
[19728]:في ب: توسمها.
[19729]:ينظر: البجر 5/464، والدر المصون 4/316.